التراث بوصفه ذاكرة المكان.. باحث يقرأ تحولات القرية السورية

مدة القراءة 3 دقيقة/دقائق

الحرية – باسمة إسماعيل:

أيُّ حنين هذا الذي يراودنا كلما ذكرت القرية؟ وهل هو مجرد شوق إلى زمن مضى، أم خوف دفين من فقدان الذاكرة التي شكلت ملامحنا الأولى؟ وأين يقف التراث اليوم في خضم التحولات المتسارعة، التي طالت أنماط العيش والعلاقات الاجتماعية؟ أسئلة فتحت لدى الباحث في التراث الدكتور غسان القيم في حديثه لصحيفتنا “الحرية”، استعادة صورة القرية السورية، بوصفها خزان القيم والهوية، ومحذراً من أن القطيعة مع التراث تعني فقدان المعنى قبل فقدان الشكل.
يرى الباحث في التراث الدكتور غسان القيم أن القرى السورية، الممتدة على التلال وفي أحضان الجبال، ليست مجرد تجمعات سكنية، بل صفحات حية من كتاب قديم خطه الأجداد بتفاصيل حياتهم اليومية، ففي تلك القرى كتبت المواسم والطقوس والحكايات، وتكرست رائحة الخبز الخارج من التنور، وامتزج عبق الزعتر البري بصوت الراعي وهو يقود قطيعه، عبر دروب حفظت خطى العابرين ولم تخنها.
وأشار القيم إلى أن هذه الصورة، على عمقها وصدقها، بدأت تتآكل تدريجياً، مع تبدل ملامح القرية وفقدانها لمعناها الاجتماعي القديم، فلم يعد سور الحاكورة (قطعة الأرض) كما كان، ولا نداء الجارة عند عتبة البيت كما عرفته الذاكرة، وتراجعت عادات شكلت يوماً جوهر الحياة الريفية، أمام موجات تغيير متسارعة أعادت تشكيل المكان والإنسان معاً.
وأكد أن الخطر الحقيقي لا يكمن في التغيير بحد ذاته، بل في امتداده إلى عمق الروح وفضاء القيم، إلى تلك اللحظة التي كان الإنسان يستمد فيها قيمته من الجذور لا من المظاهر، فالاكتفاء بمراقبة التحولات أو التفاعل معها بدهشة أو استنكار، برأيي، لا يكفي، لأن الأخطر هو إنكار الماضي والتبرؤ من عادات وصفت ظلماً بأنها “قديمة” أو “لا تليق بزمن السرعة”.
ولفت القيم إلى أن الماضي بكل ما يحمله هو الأساس الذي قام عليه الحاضر، وهو الذي علم الناس معنى الجماعة والتكافل و”الجار قبل الدار”، ومنح المكان روحه والإنسان هويته، فحوّل البيت إلى مساحة أمان، والجيرة إلى علاقة إنسانية راسخة لا تحكمها المصادفة.
وطرح القيم تساؤلات جوهرية حول مصير هذا الإرث، متسائلاً: “مَن سيحفظ للأجيال القادمة تلك الروابط، التي كانت تجمع الناس أكثر مما تجمعهم الطرق الحديثة؟ ومَن سيشرح لأطفال المستقبل معنى “اللمة” و”السهرات” و”الفزعة”؟ ومَن سيعيد إليهم صورة الريف الذي كان الأخضر فيه ينام على كتف الأزرق، وتظلله سحابة واحدة تجمع البيوت تحت ظلها؟”
وشدد على أن التراث ليس فلكلوراً ولا صوراً قديمة تعلّق على الجدران، بل نظام حياة متكامل وقانون غير مكتوب حافظ على البيئة، وصان العلاقات الاجتماعية، وأقام توازناً دقيقاً بين الأرض والإنسان. فالتراث، كما يصفه، هو يد الجدة حين تمسح التعب، وصوت الجد وهو يحكي عن المطر، واحترام الأرض قبل حصادها، والجيرة قبل الحاجة إليها.
وخلص الدكتور غسان القيم إلى أن صون التراث ليس عودة عاطفية إلى الماضي، بل فعل وعي ومسؤولية تجاه الحاضر والمستقبل. فبغير الذاكرة يفقد المكان روحه، وبغير الجذور لا تقف الشجرة في وجه الرياح، ويبقى الحنين، حين يحسن توظيفه، جسراً يعيد للذاكرة كرامتها، ويمنح الهوية قدرة على الاستمرار في زمن سريع النسيان.

Leave a Comment
آخر الأخبار