التركيز على «قاطرات» النمو.. استراتيجية شاملة للعودة إلى الإنتاج والتصدير تعتمد على التكامل بين القطاعات المختلفة

مدة القراءة 12 دقيقة/دقائق

الحرّية- هبا علي أحمد:

مرحلة استثنائية وفرص استثنائية، تجد سوريا الجديدة نفسها باقتصادها أمامها، وهذا بطبيعة الحال يفرض تحدّيات هائلة لناحية كيف يمكن استغلال الظرف وتطويعه في إنعاش الاقتصاد والمجتمع؟ ولاسيما بعد رفع العقوبات بما تمثله هذه الخطوة المهمة من فرصة استثنائية لإعادة إحياء الاقتصاد والعودة بقوة إلى ساحة الإنتاج والتصدير، التي تعتمد على التكامل بين القطاعات المختلفة: الزراعة التي توفر المنتج، والنقل يوصله إلى الأسواق، والطاقة تضمن استمرارية العمليات الإنتاجية، بينما توفر قيود الاستيراد بيئة نمو صحية للصناعة المحلية، وتحفيز الطلب الداخلي عبر زيادة فرص العمل ورفع الأجور يغذي هذه الدورة الاقتصادية ويضمن استدامتها.

العودة إلى الإنتاج والتصدير تتطلب التركز على الزراعة والنقل والطاقة مع قيود على الاستيراد وتحفيز الطلب الداخلي

الاستراتيجيات المطلوبة

في حديث لصحيفتنا «الحرّية» يرى الخبير الاقتصادي الدكتور محمد كوسا أنّ العودة إلى الإنتاج والتصدير تتطلب استراتيجية واضحة تركز على الزراعة كقطاع قاطر للنمو، وتعتبر النقل والطاقة فرصاً استثمارية حيوية للشراكة، مع فرض قيود مدروسة على الاستيراد لتعزيز الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى تحفيز الطلب الداخلي عبر توفير فرص عمل ورفع الرواتب والأجور.

ومن المعروف أن الزراعة تعتبر وبكل المقاييس العمود الفقري للاقتصاد السوري التقليدي ولديها القدرة على أن تكون القاطرة الرئيسية للتعافي، ولكن للاستفادة القصوى من هذا القطاع -وفقاً لكوسا- تحتاج التركيز على زيادة الإنتاج وتأمين الاكتفاء الذاتي عبر دعم المزارعين وتوفير المستلزمات الزراعية (بذور، أسمدة، مياه) لزيادة إنتاج المحاصيل الرئيسية مثل القمح والشعير، والخضروات، والفواكه، فهذا لا يضمن الأمن الغذائي فحسب، بل يقلل من فاتورة الاستيراد.

ومن الخطوات التي يجب التركيز عليها في السياق، تنمية الصادرات الزراعية ولاسيما أنّ سوريا غنية بمنتجات زراعية ذات جودة عالية وميزة تنافسية، مثل الحمضيات، الزيتون وزيته، الفواكه والخضروات المتنوعة، من هنا يجب التركيز على تحسين جودة هذه المنتجات لتلبية المعايير الدولية، وتطوير سلاسل التوريد، والبحث عن أسواق جديدة للتصدير، أضف إليه تصنيع المنتجات الزراعية، فالاستثمار في الصناعات الغذائية المرتبطة بالزراعة يضيف قيمة للمنتجات ويفتح آفاقاً أوسع للتصدير، كما يُمكن تحويل الفائض من المحاصيل إلى منتجات مُصنعة مثل العصائر، المربيات، الألبان، والمعلبات.

إلى جانب ما ذكر، هناك التكنولوجيا الزراعية والري الحديث، إذ إنّ تبني التقنيات الحديثة في الزراعة، مثل أنظمة الري الموفرة للمياه والزراعة الذكية، يزيد من الإنتاجية ويقلل من الهدر.

الطاقة

تبرز قطاعات النقل والطاقة من بين القطاعات الحيوية لدعم الإنتاج والتصدير، ولكنها تتطلب استثمارات ضخمة، وهنا تبرز أهمية الشراكة الاستثمارية، سواء مع القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي، لضمان الكفاءة والفعالية، ويُشير الدكتور كوسا إلى أن الاستفادة من قطاع الطاقة تتطلب تأهيل البنية التحتية للطاقة من حقول النفط والغاز، محطات توليد الكهرباء، وشبكات التوزيع التي تضررت بشكل كبير، مع فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية والمحلية في إعادة تأهيل هذه البنية، وتحديثها، وتوسيعها وهو أمر بالغ الأهمية لتأمين إمدادات الطاقة المستقرة للقطاعات الإنتاجية والمنازل.

الاستفادة من قطاع الطاقة تتطلب تأهيل البنية التحتية من حقول النفط والغاز ومحطات توليد الكهرباء مع فتح الباب أمام الاستثمارات

ويُضيف كوسا: الاستثمار في الطاقة المتجددة، ولاسيما أنّ سوريا تتمتع بإمكانات كبيرة في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما أن تشجيع الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة يُمكن أن يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويوفر طاقة نظيفة ومستدامة، إلى جانب ذلك لا بدّ من تطوير قطاع النفط والغاز من خلال استئناف وتكثيف أنشطة التنقيب والإنتاج في حقول النفط والغاز، بالتعاون مع شركات عالمية ذات خبرة، وهذا يُمكن أن يوفر إيرادات كبيرة للدولة ويدعم الصناعات البتروكيماوية.

النقل

يستعرض الدكتور كوسا أهمية قطاع النقل في عودة الإنتاج والتصدير مُحدّداً جملة من المتطلبات، لعلّ أبرزها تحديث الموانئ وشبكات النقل عبر تطوير وتحديث الموانئ السورية (خاصة ميناء اللاذقية) لزيادة قدرتها الاستيعابية وتحسين كفاءة عمليات الشحن والتفريغ، كذلك، إعادة تأهيل وتطوير شبكات الطرق والسكك الحديدية التي تربط المدن والمناطق الزراعية والصناعية بالموانئ والمنافذ الحدودية، يُضاف إلى ذلك تطوير المطارات والنقل الجوي من خلال تحديث المطارات وزيادة عدد الرحلات الجوية (الشحن والركاب) يسهل حركة التجارة والأعمال، ويفتح آفاقاً لتصدير المنتجات السورية ذات القيمة العالية التي تتطلب سرعة في الشحن.

تحديث الموانئ لزيادة قدرتها الاستيعابية وتحسين كفاءة عمليات الشحن والتفريغ وإعادة تأهيل وتطوير شبكات الطرق والسكك الحديدية

كما إن الشراكات في إدارة وتشغيل البنية التحتية لقطاع النقل تُعدّ من الضرورات حيث يُمكن للقطاع الخاص، بخبرته وكفاءته، أن يلعب دوراً محورياً في إدارة وتشغيل الموانئ، المطارات، وشبكات النقل، ما يساهم في رفع مستوى الخدمات وتقليل التكاليف.

قيود على الاستيراد

المطالب المُلّحة بعودة حركة الإنتاج تعني حتماً تضافر الجهود لتعزيز الإنتاج المحلي وحماية الصناعات الناشئة بعد سنوات من التوقف، وهذا يستدعي تطبيق قيود ذكية ومدروسة على الاستيراد، لكن هذا لا يعني إغلاق الأبواب تماماً، بل توجيه الاستيراد لدعم الاقتصاد بدلاً من إضعافه.

لتعزيز الإنتاج المحلي وحماية الصناعات الناشئة بعد سنوات من التوقف يجب تطبيق قيود ذكية ومدروسة على الاستيراد

ويُقدّم كوسا مروحة من المقترحات في السياق، تأتي في مقدمتها، حماية المنتج المحلي عبر فرض رسوم جمركية أعلى أو تحديد حصص استيراد على المنتجات التي يُمكن إنتاجها محلياً بكميات كافية وبجودة مقبولة (خاصة المنتجات الزراعية والصناعات التحويلية). وهذا يشجع المستهلكين على شراء المنتج الوطني ويدعم المصانع والورشات المحلية، أضف إليه توجيه الاستيراد نحو المواد الأولية ومدخلات الإنتاج من خلال تسهيل استيراد المواد الخام والآلات وقطع الغيار التي تحتاجها المصانع السورية لتعمل بكامل طاقتها وتنتج سلعاً تنافسية، وهذا يدعم الإنتاج ولا ينافسه.

الاستيراد الانتقائي للسلع الأساسية وغير المتوفرة محلياً من خلال السماح باستيراد السلع الضرورية التي لا يُمكن إنتاجها محلياً بكميات كافية أو بجودة مطلوبة، لضمان استقرار الأسواق وتلبية احتياجات المواطنين، إلى جانب منع إغراق السوق عبر وضع آليات لمراقبة الاستيراد لمنع إغراق السوق بمنتجات رخيصة قد تضر بالصناعة المحلية وتعيق نموها، وأخيراً الشفافية في قرارات الاستيراد إذ يجب أن تكون قرارات الاستيراد واضحة وشفافة، وأن تعلن مسبقاً للسماح للمستثمرين المحليين بالتخطيط لإنتاجهم.

تحفيز الطلب الداخلي

من وجهة نظر تحفيز الطلب، لا يُمكن للإنتاج أن يرتفع ويزدهر من دون قوة شرائية كافية داخل السوق المحلية، حسب الدكتور كوسا، لذلك يصبح إيجاد فرص عمل جديدة ورفع الرواتب والأجور شرطاً أساسياً لزيادة الإنتاج والإنتاجية، عبر توليد فرص عمل جديدة إذ إنّ مع إعادة تأهيل المصانع والمزارع وتنشيط قطاعات البناء والنقل، ستتاح فرص عمل واسعة، وهنا يجب دعم برامج التدريب المهني لتأهيل الأيدي العاملة بما يتناسب مع احتياجات السوق الجديدة.

كما يوضح الدكتور كوسا أن رفع الأجور والرواتب بشكل يتماشى مع تكاليف المعيشة ويزيد من الدخل المتاح للإنفاق لدى الأفراد، يؤدي مباشرة إلى زيادة الطلب المحلي على السلع والخدمات المنتجة محلياً، ما يحفز المصانع والشركات على زيادة إنتاجها، لافتاً إلى أنّ توفير بيئة عمل آمنة ومُحفّزة تزيد من إنتاجية العمال وتجذب الكفاءات، ما ينعكس إيجاباً على جودة المنتجات وتنافسيتها.

وأشار كوسا إلى أنه يُمكن تطبيق نماذج عمل تربط جزءاً من الزيادة في الأجور بتحقيق أهداف إنتاجية معينة، لضمان أن رفع الرواتب يساهم بشكل مباشر في زيادة الإنتاج والفعالية، مع التشجيع على الشراء المحلي عبر الحملات التوعوية التي تشجع المواطنين على شراء المنتجات السورية بما يدعم الصناعة المحلية ويزيد من دوران رأس المال داخل الاقتصاد الوطني.

التحدّيات

وبالنظر إلى الوضع الراهن في سوريا والتاريخ الحديث، فإن تطبيق استراتيجية شاملة للعودة إلى الإنتاج والتصدير، حتى مع رفع بعض العقوبات، سيواجه تحدّيات جمّة يقسّمها الدكتور كوسا إلى محاور رئيسية عدة، أولها وأهمها، التحدّيات الاقتصادية والمالية متمثلة بنقص التمويل ورأس المال، فعلى الرغم من رفع العقوبات، قد تظل مصادر التمويل الدولية (مثل البنوك وصناديق الاستثمار الكبرى) حذرة من الاستثمار في سوريا بسبب المخاطر المرتفعة وعدم اليقين، كما أن رأس المال المحلي أيضاً قد يكون مستنزفاً أو متجهاً نحو المضاربة بدلاً من الإنتاج، كما أنّ الاقتصاد السوري يواجه تضخماً مرتفعاً للغاية وتقلبات حادة في سعر صرف الليرة السورية، وهذا يُقوّض الثقة، ويجعل التخطيط الاقتصادي صعباً، ويزيد من تكلفة المواد الأولية المستوردة ومدخلات الإنتاج، أضف إليه فإن تراكم الديون المحلية والخارجية قد يحدّ من قدرة الحكومة على الاستثمار في البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية أو تقديم حوافز، مع ما يُعانيه القطاع المصرفي من مشاكل هيكلية ونقص في السيولة، ما يعيق قدرته على توفير القروض اللازمة للشركات والمزارعين.

وحول التحدّيات المتعلقة بالبنية التحتية والإنتاج، يقول كوسا: سنوات الصراع دمرت جزءاً كبيراً من البنية التحتية الحيوية (الطرق، السكك الحديدية، الموانئ، المطارات، شبكات الكهرباء والماء)، وبالتالي فإن إعادة بناء هذه البنية تتطلب استثمارات ضخمة ووقتاً طويلاً، مُضيفاً: حتى مع الاستثمار في قطاع الطاقة، فإن تأمين إمدادات كافية ومستقرة من الكهرباء والوقود للقطاعات الإنتاجية والمنازل سيكون تحدّياً كبيراً في المدى القريب والمتوسط.

كما إن تدهور العديد من الأراضي الزراعية، إضافة إلى تحدّيات نقص المياه وشح الأمطار، يؤثر على قدرة الزراعة على أن تكون قاطرة للنمو، ولا ننسى أنّ العديد من الصناعات تعتمد على استيراد المواد الأولية وقطع الغيار، وهنا لا بدّ من التنويه إلى أنّ القيود المتبقية (مثل قانون قيصر) وصعوبات التمويل يمكن أن تعيق تدفق هذه المستلزمات.

وإلى جانب التحدّيات المالية والبنية التحتية، تبرز التحدّيات السياسية والقانونية، فعلى الرغم من رفع بعض العقوبات، فإن قانون قيصر الأمريكي يظل يفرض قيوداً صارمة على التعامل مع الحكومة السورية وبعض القطاعات، وهذا يخلق بيئة من عدم اليقين للمستثمرين الدوليين ويحدّ من وصول سوريا إلى الأسواق العالمية، وفقاً لكوسا، كما إنّ استمرار بعض جيوب الصراع أو التوترات الأمنية في أجزاء من البلاد يُمكن أن يعيق الاستثمار ويعطل سلاسل الإمداد، وقد تعيق البيروقراطية والفساد تطبيق الاستراتيجيات الاقتصادية الفعالة، وتحبط المستثمرين المحليين والأجانب. وينوّه كوسا إلى الحاجة لتحديث الإطار القانوني والتنظيمي لجذب الاستثمار وحماية حقوق الملكية وتسهيل الأعمال التجارية.

التحدّيات الاجتماعية والبشرية حيث فقدت سوريا جزءاً كبيراً من كوادرها البشرية المؤهلة نتيجة الهجرة، ما يخلق نقصاً في الخبرات الفنية والإدارية والعمالة الماهرة، كما إنّ مستويات البطالة والفقر مرتفعة للغاية، مما يضع ضغوطاً اجتماعية واقتصادية كبيرة، ويحدّ من قدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم الأساسية، حتى مع زيادة الأجور، ومن ثم يأتي نقص الثقة، وقد تستغرق استعادة ثقة المواطنين في الاقتصاد وفي قدرة الدولة على تحسين ظروفهم المعيشية وقتاً طويلاً.

ويُضاف إلى جملة التحدّيات السابقة، تحدّيات التجارة الخارجية، من حيث صعوبة الوصول إلى الأسواق العالمية، فبناء علاقات تجارية جديدة واستعادة الأسواق التقليدية يتطلب جهوداً دبلوماسية واقتصادية كبيرة، وقد تواجه المنتجات السورية صعوبة في المنافسة بسبب مشاكل الجودة أو السمعة أو تحدّيات الشحن، إلى جانب مشاكل الدفع والتحويلات المالية وحتى بعد رفع العقوبات، قد تظل البنوك العالمية حذرة من التعامل مع البنوك السورية، ما يعقد عمليات الدفع والتحويلات التجارية.

باختصار، يرى كوسا أنه بينما يفتح رفع العقوبات نافذة أمل، فإن الطريق أمام عودة سوريا للإنتاج والتصدير محفوف بالتحديات الهيكلية والسياسية والاقتصادية المعقدة التي تتطلب رؤية استراتيجية طويلة الأمد، وإدارة حكيمة، وتعاوناً دولياً، والأهم من ذلك، إرادة سياسية قوية لمعالجة جذور المشكلات.

Leave a Comment
آخر الأخبار