الحرية- حنان علي:
أطيلُ النظر إلى صورة قديمة جمعتني مع والديّ، أتفكر بتفاصيل ذلك اليوم العالق بين ظلال الأبيض والأسود، بدءاً من ابتسامتهما مروراً بغرفة التصوير وانتظار الطباعة وانتهاء بـ (الكرت) المعلق على إحدى المرايا. يرحل الأعزاء وتبقى ملامحهم ساكنة صامتة وكأنهم ما حزنوا يوماً، ضحكوا، صرخوا أو حتى أرهقهم العمر! وكأنما تجاربهم الأليمة انزلقت من الإطار مبقية على لحظة آنية تقتات على فرحٍ ما، قصص وأحلام ووعود قبل أن يرحلوا كما الفصول المهاجرة من كتابٍ قديم.
أيّ ابتكارٍ في تاريخ البشرية أسس التصوير الفوتوغرافي، أيّ قرنٍ عظيم أطلق المقدمة البديعة لكل التطورات التقنية والفنية التي غيرت مجرى الفن والإعلام والمجتمع.
من الكاميرا الغامضة إلى الصور الثابتة
تعود جذور التصوير الفوتوغرافي إلى “الكاميرا الغامضة ” (Camera Obscura) التي استخدمها الفلاسفة والعلماء في العصور القديمة؛ عبارة عن جهاز بصري يعرض صورة لما يحيط به على الشاشة أو الحائط، يعمل عن طريق السماح للضوء بالمرور عبر ثقب صغير أو عدسة إلى السطح، مما يؤدي إلى إنشاء صورة معكوسة ومقلوبة للمشهد الخارجي. ومع ذلك، لم يكن بالإمكان توثيق هذه الصور حتى تم اكتشاف مواد حساسة للضوء.
في صيف عام 1826، قام رائد التصوير الفوتوغرافي العالم الفرنسي (جوزيف نيسيفور نيبس) بتحضير أول صورة دائمة باستخدام تقنية “هليوغرافيا” أو ما يسمى بـ الرسم الشمسي. وكانت الصورة تُظهر منظراً من نافذته، استغرقت عملية التقاطها أكثر من ثماني ساعات. وقد عمل طويلاً مع (لويس داجير) وأجريا تحسينات على طريقة إعداد فيلم التصوير.
بعد ذلك، في عام 1839، قدم (لويس داجير) تقنية الدَّغَريَّة أو الدّاجِيرِيّة “، وهي عملية إيجابية مباشرة، حيث يتم إنشاء صورة مفصلة للغاية على صفيحة من النحاس مطلية بطبقة رقيقة من الفضة دون استخدام سلبي تتطلب العملية عناية كبيرة تسمح بالتقاط صور واضحة في وقت أقل، مما جعل التصوير الفوتوغرافي أكثر شيوعاً.
من الأفلام إلى الرقمية
مع مرور الوقت، تطورت تقنيات التصوير بشكل كبير وصولاً إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث تم تقديم الأفلام الفوتوغرافية، مما سمح بالتقاط الصور بشكل أسرع وأسهل. حتى ظهور الكاميرات المحمولة في القرن العشرين، مما جعل التصوير متاحاً للجميع، وليس حكراً على المحترفين.
ومع ظهور التصوير الرقمي في التسعينيات، شهدنا ثورة حقيقية في عالم التصوير، لتمسي الكاميرات الرقمية أكثر شيوعاً، مما أتاح للناس التقاط الصور وتعديلها ومشاركتها بسهولة. أما اليوم، فيمكن لأي شخص أن يحترف التصوير بفضل الهواتف الذكية ذات الكاميرات عالية الجودة.
التأثير على الفن
أثر التصوير الفوتوغرافي بشكل عميق على عالم الفن. فقد اعتُبر التصوير في بداياته تهديداً للرسم، لكن سرعان ما أصبح وسيلة تعبير فنية بحد ذاتها. تطور التصوير الفوتوغرافي الفني، حيث بدأ الفنانون باستخدامه كوسيلة لاستكشاف مواضيع جديدة، مثل الهوية، والذاكرة، والواقع.
كما أضحى التصوير الفوتوغرافي جزءاً لا يتجزأ من المعارض الفنية، حيث يتم عرض أعمال المصورين في المتاحف والمعارض حول العالم. كما ساهمت الحركات الفنية مثل السريالية والتعبيرية في تطوير أساليب جديدة في التصوير.
التأثير على الإعلام والمجتمع
لم يقتصر تأثير التصوير الفوتوغرافي على الفن فحسب، بل امتد أيضاً إلى الإعلام والمجتمع. إذ بات التصوير وسيلة قوية لنقل الأخبار والمعلومات، حيث ساهمت الصور في توثيق الأحداث التاريخية، مثل الحروب والثورات. وأمسى لها القدرة على نقل المشاعر والأحاسيس، مما جعلها أداة فعالة في التأثير على الرأي العام.
في العصر الحديث، مع تقدم وسائل التواصل الاجتماعي نفسها كمنصة رئيسة لمشاركة الصور، مما يتيح للأفراد التعبير عن أنفسهم ومشاركة تجاربهم مع الآخرين، محولين الصور إلى جزء لا يتجزأ من الهوية الرقمية وأداة قوية للتواصل والتعبير.
ومع قدرتنا الهائلة على التقاط آلاف الصور حيثما شئنا وأينما حللنا، لكنها ما انفكت بمعظمها حبيسة أجهزتنا الالكترونية سريعة العطب والتي قادتنا بعيداً عن مجلد الألبومات الكرتونيّ الأشدّ إخلاصاً لذكرياتنا الآفلة.