الحرية- علي الراعي:
صورة المذيعة الضخمة (المسنودة) والتي تكاد تندلق، وكذلك مشهد الصحيفة المُحترمة التي تدفع بكتّابِها المُدعين إلى حاوية القمامة، أو مشهد (الرقيب) المُتهالك الضخم الذي يمشي كحافلة قديمة، والذي لا يمل يمنع الأقلام من التفكير والكتابة، وغيرها من رسوماتٍ كاريكاتيرية؛ أمست اليوم معلماً في مشهد الرسوم الساخرة في المشهد التشكيلي السوري، والتي هي من إنجازات فنان الكاريكاتير عبد الله بصمه جي (1957- 2018) الذي تمر ذكرى وفاته هذه الأيام..
دون زيف
وعبدالله بصمه جي؛ درس الفن بنفسه، وعممه بعمله المجتهد والمتواصل على الانتاج الفني الغرافيكي، بدءاً من فن الكاريكاتير وانتهاءً برسوم الأطفال وفنون الكتاب والإخراج الصحفي. وبقي لزمنٍ طويل يُقدم رسوماته التعبيرية دون زيف، هنا الفكرة التي تتساوق من التشكيل في لوحة تحكي ألف قصةٍ وقصة بمنتهى الجرأة، وبقوة خطوط وألوان لم يستطع سوى أمثال بصمه جي الوصول إليها، مؤكداً على أن فنون الكاريكاتير؛ هي من مذاهب الفن التشكيلي، أو هي المدرسة التعبيرية المُبالغ فيها في التشكيل.. قدّمه بصمه جي مُتناولاً الحياة من منظار غرافيكي ذهني ويومي، بكل ما له علاقة بتفاصيل الحياة اليومية، وقد أخرج رسوماته من الحالة الغرفيكية لحالة ملونة تُعادل اللوحة التشكيلية، وإن كانت الخطوط هنا، أهم ملامح اللوحة الكاريكاتورية، لكن دون أن تفقد مساحتها من ألوان؛ كان يصر أن تأتي (فاقعة)، وصارخة لتزيد في حالة السخرية، دون أن يفقد حالة التوازن واللعب بالفراغ في بناء اللوحة..
في صحيفة الثورة
بدأ عبد الله بصمه جي؛ منذ ثمانينيات القرن الماضي – العشرين، وتحديداً منذ سنة 1982، حيث نُشرت له صحيفة الثورة السورية أوّل رسمة كاريكاتيرية، ومنذ ذلك الوقت بدأت رحلة الاحتراف حيث عمل في (الثورة) لمدّة ستّ سنوات أيّ لغاية 1988، لتنطلق رسوماته بتشجيع من استاذه الفنان عبد اللطيف مارديني –أحد مؤسسي فن الكاريكاتير في سوريا- في عشرات الصحف الأخرى، ومن ثم ليختمها بشكلٍ لافت برحيله سنة (2018) على صفحات الفيسبوك، وكأنه كان يريد أن يقول كل ما عنده، ودفعةً واحدة.
عبد الله بصمه جي الذي يعدّ فن الكاريكاتير؛ بإنه من أصعب الفنون، ومن وجهة نظره؛ لا بدّ من مواصفات، يجب أن تتوفر في فنان الكاريكاتير، وهو يُحددها بالآتي: أن يجيد الفنان الرسم، وطبعاً هذا وسيلة لإيصال الفكرة.. وأن يكون صاحب فكر، وقريب من هموم الناس، بل لسان حالهم، لأنّ الفكرة هي الغاية وهي التي ستحمل الرسالة.. والأهم مما سبق هو الحسّ الساخر، وطبعاً هذا الحسّ نابع من الداخل، لأنّ الكثير من الناس يعتقدون أنّ رسام الكاريكاتير شخصية مرحة، ودمّه خفيف، وهو صاحب نكتة، لكنّهم لا يعلمون أنّ السخرية تنبع من داخله بسبب الألم، ويأتي التركيز على السخرية؛ لأنّه – الكاريكاتير – هو الفنّ الساخر، وهو فنّ التهكم والنقد اللاذع.. وهم يُقابلون الكتاب الساخرين في الأدب والسرد بشكلٍ عام – وهؤلاء قلة أيضاً – وبتقديره لو امتلك شاعر مثل محمد الماغوط موهبة الرسم، لأصبح برأيه أعظم رسام كاريكاتير .
مزاجية خاصة
يُقدّم بصمه جي كل تلك الحالة التعبيرية البصرية، بمزاجية خاصة، وذلك نظراً لحساسية المبدع الذي يتأثر بالفرح؛ والحزن؛ والضحك؛ والبكاء؛ والشبع؛ والجوع؛ والإحباط؛ والأمل، كلّ هذه القضايا تتحكم بالمزاجية.. وبهذه (المزاجية)؛ كان على بصمه جي أن يشتغل على “شيفرة” من المفردات في اللوحة، بحيث، وإن كانت لوحة الكاريكاتير؛ تُحسب أحياناً على الأنواع الصحفية؛ غير أنها في الجانب الآخر؛ هي فنٌّ إبداعي، وكثيراً ما يُصنف ضمن الفنون الجميلة، وإن كانت لا تُدرسّه الأكاديميات، بمعنى لا يُقدّم بصمه جي لوحته مباشرة وتقريرية لقارئه، وإنما يُقدمها من خلال شيفرة يستطيع أن يفك رموزها، (كرسي، بسطار، قناع حمار، و.. غيرها) مفردات تلخص الشرائح الاجتماعية، من مواطن، ومسؤول، ومجتمع، وكانت لوحة الكاريكاتير أشبه بلوحة مسرحية تنبض حيوية، شخصيات متنوعة، لكلّ شخصية حكايتها، أو صرختها، وكأي عمل درامي، كان تشابك الحكايا مع تتالي الشخصيات في اللوحة، تقدم هذه الدراما بكل وجعها، ومن ثم كان هذا الرجل- بصمه جي- يرسم بحواسه الخمس لكائنات وبشر نراهم في جهاتنا الست، ومن ثم أيضاً كان هذا الاشتغال الطويل على توصيل الفكرة، التي يعتبرها أنها إبداع حقيقي، شأنه شأن إنتاج اللوحة نفسه.