الجغرافيا السورية تتنفس.. فرصة لتحويل “التراب إلى نقود”.. فكرة منطقة حرّة متكاملة في الساحل السوري بعائدات من ذهب

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية – نهى علي:
الشاطئ ميزة والبحر قيمة مضافة اقتصادياً وثقافياً..هذه مسلّمات لم تعد بحاجة إلى طول تحليل وشرح، بل إلى تخطيط مكثف لاجتراح سبل استثمار أمثل لها.
في سوريا شريط شاطئي بطول يزيد على 180 كيلومتراً.. تتخلله الكثير من المساحات الشاغرة المؤهلة من حيث المبدأ، لتكون نواة استثمار متكامل تحت مسمى منطقة حرّة شاملة لكل الأنشطة الاقتصادية.
الفكرة تبدو غاية في الإستراتيجية، لكنها تحتاج إلى بلورة رؤى أولية، ووضع خطة واقعية قابلة للتطبيق، وستكون نواة استثمار مجز بكل معنى الكلمة.

د. ريا: تحويل الساحل السوري إلى منطقة حرة ليس بوصفه مشروعاً اقتصادياً عابراً.. بل نافذة تستعيد عبرها البلاد أنفاسها في حركة التجارة الإقليمية وكبوابة لإعادة تموضعها في خريطة الاقتصاد العالمي

حلم قابل للتحقّق

يعتبر الدكتور المهندس البحري سلمان ريا، أن ثمة لحظة فارقة تشهدها الجغرافيا السياسية والاقتصادية للمنطقة، يتقدّم فيها حلم تحويل الساحل السوري إلى منطقة حرة ليس بوصفه مشروعاً اقتصادياً عابراً، بل كنافذة تستعيد عبرها البلاد أنفاسها في حركة التجارة الإقليمية، وكبوابة لإعادة تموضعها في خريطة الاقتصاد العالمي.
إذ لم تعد الجغرافيا كافية بحدّ ذاتها لتصنع القيمة، بل إن إعادة رسم العلاقة بين المكان والقرار الاقتصادي هو المدخل الحقيقي نحو استنهاضٍ تنموي يتجاوز مفاهيم المركزية الجامدة، ويمنح الأطراف فرصةً للتنفس والنمو.

محاولة جادة لاستحضار روح اللامركزية الاقتصادية.. حيث يتحرّر القرار الاستثماري من قبضة الإدارة المركزية، وتتوزع مراكز الثقل الاقتصادي

استحضار روح اللامركزية الفعّالة

ويؤكد د. ريا في تصريح لصحيفتنا الحرية، أن هذه الرؤية ليست مجرد قفزة فوق الواقع القائم، بل محاولة جادة لاستحضار روح اللامركزية الاقتصادية، حيث يتحرّر القرار الاستثماري من قبضة الإدارة المركزية، وتتوزع مراكز الثقل الاقتصادي إلى هوامش البلاد الساحلية.
ويضيف: في قلب هذا الحلم يتجلى إدراك عميق لأهمية التمويل الذاتي، فكل منطقة حرة لا تكتمل إلا بقلب مصرفي نابض يمنحها القدرة على اجتذاب الاستثمارات وإدارة حركة رؤوس الأموال بمرونة وكفاءة، فإن إنشاء بنية مصرفية محلية متطورة، تتسم بالمرونة والسرعة وتستجيب لحاجات المستثمرين بعيداً عن التعقيدات التقليدية، ليس تفصيلاً جانبياً، بل هو جوهر المشروع وروحه الحية.. فكلما اقتربت البيئة المصرفية من معايير المناطق الحرة العالمية، اقترب الساحل السوري من لعب دور اقتصادي يتجاوز حدوده.

المرافئ الجافة التي ستُنشأ عند المعابر الحدودية مع دول الجوار.. وفي مراكز التصنيع الكبرى مثل عدرا في دمشق وحسياء في حمص وشيخ نجار في حلب.. ستشكل شبكة حيوية تربط الساحل بعمق الداخل السوري

معوقات قابلة للتذليل

لكن الدكتور المهندس البحري، يلفت في سياق سرده لرؤيته، إلى أن هذا الحلم يصطدم بإرث معقد من الحيازات الصغيرة والمتناثرة التي طالما كبّلت حركة التوسع العمراني والصناعي على الساحل، وينبّه إلى أن التحدي هنا لا ينبغي أن يتحوّل إلى قيد، بل إلى فرصة لإعادة صياغة منظومة النقل واللوجستيات برؤية ذكية تتجاوز فكرة التركيز الجغرافي التقليدي.
يرى د. ريا أن المرافئ الجافة التي ستُنشأ عند المعابر الحدودية مع دول الجوار، وفي مراكز التصنيع الكبرى مثل عدرا في دمشق، وحسياء في حمص، وشيخ نجار في حلب، ستشكل شبكة حيوية تربط الساحل بعمق الداخل السوري، وتُنسج بين البحر والبر خيوط النقل متعدد الوسائط الذي يخفض التكاليف ويزيد من مرونة سلسلة الإمداد.
ويؤكد أن إنشاء هذه المرافئ الجافة ليس مجرد خيار لوجستي، بل هو إعادة هندسة للتدفقات التجارية السورية، حيث تصبح الحدود مع دول الجوار معابر فاعلة لنقل البضائع من وإلى المرافئ البحرية، ضمن شبكة متكاملة تسهّل الحركة وتمنح الاقتصاد السوري بوابات مرنة للتنفس.
و في مثل هذا السياق.. يرى د. ريا أن ثمة حاجة تبرز هنا إلى إنشاء مرفأ متخصص للبضائع السائبة والكيماويات في منطقة الحميدية، على مقربة من الحدود اللبنانية، ليس فقط لتخفيف الضغط عن مرفأي اللاذقية وطرطوس، بل ليفتح نافذة مباشرة نحو الأسواق الإقليمية والمتوسطية، ويوفر نقطة انطلاق جديدة لتجارة المواد الأولية والصناعات الكيماوية التي تحتاج إلى بنى تحتية خاصة ومواصفات دقيقة.

البنية التحتية القائمة في الموانئ السورية.. تشكل أساساً يمكن البناء عليه بخطوات منهجية تبدأ من تأهيل الأرصفة وتوسيع المعدات ورفع كفاءة خطوط الشحن.. وصولاً إلى ربطها عضوياً بشبكات النقل البرية والسكك الحديدية

بنية مؤهّلة

ثمة ما يجعل هذا المشروع قابلاً للحياة ليس فقط طموحه، بل قابليته للتدرّج الواقعي.. من وجهة نظر الدكتور ريا، الذي يرى أن البنية التحتية القائمة في الموانئ السورية، وإن كانت بحاجة إلى تطوير واسع، تشكل أساساً يمكن البناء عليه بخطوات منهجية تبدأ من تأهيل الأرصفة وتوسيع المعدات ورفع كفاءة خطوط الشحن، وصولاً إلى ربطها عضوياً بشبكات النقل البرية والسكك الحديدية التي تمثل شرايين الاقتصاد الجديد.
لكن جوهر النجاح هنا لا يقتصر على تدفق الحاويات ولا على ازدحام السفن، بل يكمن في قدرة المشروع على إعادة تشكيل بنية الاقتصاد السوري نفسه، من خلال تخفيف التركيز المالي والإداري من المركز نحو الأطراف، ومنح المحافظات استقلالية حقيقية تخوّلها إدارة استثماراتها بكفاءة وسرعة.

ديناميكيات جديدة

في العمق، يلفت الخبير الاقتصادي – البحري إلى أن المنطقة الحرة ليست مجرد حيز جمركي مخفف، بل هي فلسفة تنموية تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والاقتصاد، بين المركز والأطراف، وبين الجغرافيا والإدارة.. أي إنها تجربة لامركزية متقدمة تفتح المجال لخلق ديناميكيات جديدة في اتخاذ القرار الاقتصادي بعيداً عن السقف البيروقراطي التقليدي، وتمنح الاقتصاد السوري أفقاً أرحب لالتقاط أنفاسه والانخراط من جديد في شبكات التجارة العالمية بشروط أكثر مرونة.

انفتاح ذكي

تحويل الساحل السوري إلى منطقة حرة ليس حلماً مستحيلاً، بل هو نافذة حقيقية يمكن أن تمنح البلاد رئة جديدة تتنفس منها، وشرياناً اقتصادياً يعيد ضخ الحياة في جسد طالما أثقلته القيود الإدارية والعقوبات الخارجية… أي هي لحظة استحقاق تاريخية تستوجب التقاط الفرصة وبناء المشروع على أسس مدروسة تتجاوز الارتجال وتؤسس لمرحلة نوعية من الانفتاح الاقتصادي الذكي.
ويختم حديثه لـ ” الحرية”: لقد آن لهذا الساحل أن يتنفس، وللجغرافيا أن تتحرر من سجنها القديم، وللاقتصاد السوري أن يمتلك أجنحة جديدة تليق بموقعه وتستجيب لتحديات عصره. حلم يتشكل، بانتظار من يمنحه نبض الحياة.

Leave a Comment
آخر الأخبار