الحرية- إلهام عثمان:
لطالما ترددت الأمثال الشعبية في مجتمعنا كصدى لتجارب الأجيال، ومنها أن “تربية الصبيان أصعب من الضرب في حجر الصوان”، فهل تحمل هذه المقولة في طياتها حقيقة تربوية عميقة، أم إنها مجرد انعكاس لواقع تربوي معقد، أو ربما تخفي وراءها فروقات نفسية وسلوكية عميقة بين الجنسين؟
وهنا، نسلط الضوء لكشف مفهوم “الجندر” الذي بات ضرورياً لاستيعاب هذه الديناميكيات، ولنرى كيف يمكن للرؤى العلمية أن تضيء لنا دروب التربية، بعيداً عن الأمثال الشعبية التي قد لا تصيب الهدف دائماً.
من واقعنا
أم عبود تحدثنا أن لديها ٤ أطفال ذكور، وهي المسؤولة عن تربيتهم، إلا أنها تجد في تربيتهم متعة رغم متاعبهم، كونها قادرة على تربيتهم بشكل صحيح، مبينة أنه لا بد من تفاوت في السلوك والأطباع وحدتها بين طفل وآخر.
بينما أم إبراهيم، وهي أم لثلاثة أطفال تقول: أجد صعوبة في تربية أطفالي بشكل عام، إلا أن الإناث هم أكثر حناناً من الذكور، ورغم ذلك لا أفرق في التعامل بينهم فجميعهم أبنائي.
– حسون: السماح بمساحة شخصية للطفل للتعبير عن مشاعره بطريقته الخاصة دون التوبيخ أو المقارنة
التربية فن
اختصاصية التنمية البشرية والاستشارات النفسية والأسرية رانيا حسون تؤكد من خلال حوار مع صحيفتنا “الحرية”، أن المثل الشعبي السابق مبالغ فيه، مبينة أنه هناك فروقات نفسية وسلوكية بين الذكر والأنثى، لكنها لا تعني بتاتاً أن تربية الذكور أصعب من الإناث، فمن جهة الذكور بطبيعتهم أكثر اندفاعاً وحركة، ويعبرون عن مشاعرهم بالغضب أو السلوك، بينما الإناث يتكلمن أبكر، وهن أكثر حساسية وعاطفية، ويعبرن عن مشاعرهن بالحديث أو البكاء.
من جهتها تبين لنا الخبيرة الاجتماعية الدكتورة سمية معلا، أن مفهوم “الجندر” يبرز كأداة أساسية لفهم الاختلافات السلوكية والنفسية بين الذكور والإناث، وأنها ليست مجرد صفات بيولوجية، بل هو بناء اجتماعي وثقافي يتشكل عبر التنشئة والتفاعل مع المحيط، فهو يشمل الأدوار والتوقعات والسلوكيات التي يربطها المجتمع بكل جنس، والتي غالباً ما تغرس فينا منذ الصغر، لتشكل هويتنا وتؤثر على طريقة تفكيرنا وتصرفنا.
– معلا: توفير بيئة تربوية متوازنة تشجع على التعبير عن الذات وتحترم الفروقات الفردية بعيداً عن القوالب النمطية
ليس مجرد فضول
كما أوضحت معلا أن اهتمام الناس بجنس المولود ليس مجرد فضول، بل هو بوابة لعالم من التوقعات الثقافية والاجتماعية تُعرف بـ”الجندر”، فمنذ سن مبكرة (2-3 سنوات)، يتعلم الأطفال تصنيف أنفسهم والآخرين، وسرعان ما تتشكل لديهم قناعات حول ما “يجب” أن يكون عليه الذكر أو الأنثى في مجتمعهم، من ألعاب وملابس وحتى مهن.
هل التربية تختلف حقاً؟
وهنا تؤكد معلا أن الفروقات السلوكية والنفسية بين الجنسين موجودة، ولكنها غالباً ما تكون نتيجة للتنشئة الاجتماعية أكثر من كونها حتمية بيولوجية، مبينة أن المجتمع يميل إلى تشجيع صفات معينة لدى الذكور، مثل القوة والاعتماد على الذات، بينما يميل إلى تشجيع صفات أخرى لدى الإناث، مثل الحنان والاعتمادية، هذه التوقعات الجندرية، التي تُغرس فينا منذ الصغر، قد تؤثر على طريقة تعامل الأهل مع أبنائهم، وتؤدي إلى تصورات مسبقة حول صعوبة تربية أحدهما مقارنة بالآخر.
قدرات عقلية
أما عن الفروق في القدرات العقلية، فتؤكد معلا أنه هناك دراسات للدماغ تشير إلى فروقات في الحجم الكلي لصالح الذكور، بينما يتطور النصف الكروي الأيسر لدى الإناث أسرع، ما يمنحهن تفوقاً لفظياً وتحليلياً، في المقابل، يكون الذكور أفضل في مهارات الرسم والرياضيات، ويتعاملون أكثر مع العالم المرئي.
في سياق هذه الفروقات، يبرز تساؤل حول الإنفاق، هل مصروف الإناث أكبر أم الذكور من الناحية الاقتصادية؟ تؤكد معلا أنه لا يمكن الجزم بأن مصروف الإناث أكبر من الذكور أو العكس بشكل عام، فالأمر يعتمد على عوامل متعددة كالمرحلة العمرية، الاهتمامات الشخصية، التوقعات الاجتماعية، والوضع الاقتصادي للأسرة.
لذا فإن أنماط الإنفاق تتفاوت بين الأفراد بغض النظر عن جنسهم، والاختلافات تكمن في فئات الإنفاق التي يميل كل جنس للتركيز عليها، نتيجة تفاعل معقد بين العوامل البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية.
– الذكور يعبرون عن مشاعرهم بالغضب أو بسلوك معين بدلاً من التعبير بالكلام.. والأنثى تعبر إما بالكلام أو البكاء والصراخ
فروق سلوكية
وعن الفروقات السلوكية ووفق رأي معلا، ترى أن الصور النمطية تُلقي بظلالها على السلوك الاجتماعي، حيث إن النساء غالباً ما يصورن ككائنات عاطفية، راعية، وأكثر عرضة للاكتئاب، بينما يُنظر للرجال كقادة عدوانيين ونشيطين، هذا التنميط قد يؤدي، مثلاً، إلى معاناة الإناث أكثر من الذكور من اضطرابات الصورة الجسدية.
وأن أي اختلافات موجودة بين الذكور والإناث هي في الغالب صغيرة ولا معنى لها، بل تتضاءل مع التقدم التعليمي والتنشئة الاجتماعية.
تحديات
أما التحديات التي قد يواجها الأهل فهي مختلفة عند تربية الذكور، ليس بالضرورة بسبب طبيعتهم البيولوجية، بل بسبب التوقعات المجتمعية المرتبطة بـ الذكورة، هذا ما بينته معلا: فغالباً ما يُطلب من الصبيان أن يكونوا أقوياء “لا يبكون”، وأن يعتمدوا على أنفسهم في كل شيء، هذه الضغوط، التي قد تفسر أحياناً على أنها “صعوبة في التربية”، والتي قد تجعلهم يواجهون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم، أو طلب المساعدة، بالمقابل، قد تواجه الفتيات تحديات مختلفة تتعلق بالتوقعات المجتمعية المرتبطة بـ”الأنوثة”، والتي قد تحد من حريتهن في التعبير عن أنفسهن أو تحقيق طموحاتهن.
بناء الثقة
وعن بناء الثقه، تبين حسون أن الهدف من التربية ليس السيطرة أو إيجاد أشخاص مثاليين، بل أن تجعل من أطفالك أشخاصاً متزنين واثقين، ومتصالحين مع أنفسهم، وذلك بتوظيف الفروقات الطبيعية بين الذكر والأنثى، في تعزيز ثقتهم بأنفسهم، وتحقيق توازن نفسي في شخصية كل منهما، مع تجنب الصور النمطية.
بدورها أوضحت معلا أنه بدلاً من الحكم على صعوبة تربية جنس معين، يجب أن نفهم أن كل طفل سواء كان ذكراً أم أنثى، فكل له احتياجاته وتحدياته الخاصة، وإن فهم الفروقات الجندرية لا يعني التسليم بها كحتمية، بل يعني إدراك تأثيرها الاجتماعي والثقافي، والعمل على توفير بيئة تربوية متوازنة تشجع على التعبير عن الذات، وتنمي المهارات، وتحترم الفروقات الفردية، بعيداً عن القوالب النمطية.
كشف الاضطرابات
وفي حال وجود تحديات أو اضطرابات، تُنصح حسون بعدم ربط السلوك بالمشكلة الشخصية، بل يجب إدراك أنها نتيجة لنقص حاجة داخلية لدى الطفل، وهنا تُحذر من التأجيل في استشارة متخصص تربوي أو نفسي عند ملاحظة علامات مبكرة، مثل العدوانية المفاجئة أو الانسحاب الاجتماعي، مُشددة على عدم وصف الطفل بالكسول، بل تقديم الدعم العاطفي له دائماً
ماذا عن دور الأهل؟
وتُشدد حسون على أن فهم هذه الفروقات هو مفتاح التربية الفعالة، ففي المنزل، يجب على الأهل السماح بمساحة شخصية للطفل للتعبير عن مشاعره دون توبيخ أو مقارنة، مبينة أن” الأم هي الركيزة الأولى في التربية”، وعليها فهم الفروقات بين الجنسين، فمثلاً يجب إعطاء الذكر مساحته مع تعليمه التعبير بهدوء عن نفسه، أما الأنثى يجب أن ندعمها لبناء شخصية قوية لتكون “أماً للمستقبل”.
أما الأب فدوره لا يقتصر على الانضباط المادي، بل يشمل الحوار، العاطفة، والاستماع، وتعليم الأبناء احترام الغير وضبط النفس.
وفي المدرسة، تُشدد على ضرورة احترام الفروق وتطبيق استراتيجيات تربوية متوازنة دون تمييز، للحفاظ على صحة الطفل النفسية.
وفي الختام، تؤكد حسون أن فهم الفروقات بين الذكور والإناث ليس لتعقيد التربية، بل لتخصيصها وجعلها أكثر فعالية، فالمعرفة والدعم المتوازن هما حجر الزاوية في بناء جيل واعٍ، قادر على التعبير عن ذاته، لمواجهة تحديات الحياة بثقة، بغض النظر عن جنسه.