الحرية- جواد ديوب:
أنا حصانُ لوحة “الغيرنيكا” المفزوع، أنا “حصان الحرب” العائد جسداً؛ المعطوب روحاً، أنا حصانُ “خزيمة علواني” المطعون بالفجائع!
لم أعدْ “دون كيشوتاً” مجنوناً ولا حتّى خادمه “سانشو بانزا” المسكين، بل أنا حصانُه البائس “روزينانتي” بفمٍ مفتوحٍ على ابتسامةٍ ضحلةٍ وعينين راكدتين لا أحلامَ فيهما.
استيقظتُ يوماً فوجدتُ أنني ما زلتُ “أنا”؛ واسمي هو اسمي! يا إلهي كيفَ لإنسانٍ أن يحتملَ “أناه” كل هذا العمر! كيف لا يُجَنُّ من ديمومةِ وهميةٍ هي مجرّد ومضة بين عتمتين!
ألهذا يقول بورخيس: “ربما لم يكنْ لديّ أمس. ربما لم أولد. ربما حلمتُ بأنني أحلم. أشعرُ بالبرد قليلاً، وقليلاً أشعر بالخوف. سوف أستمرُّ حالماً بـديكارت. أشعر بالغثيان قليلاً…لستُ معتاداً على الأزل”؟!
وهمٌ لذيذ!
مازحتُ طفلاً مرّةً وسألتُه: ماذا كان اسمُكَ البارحة؟ (ابتسمَ باستغراب) أكملتُ: وما هو اسمُكَ اليوم؟ (فزادت ابتسامته دهشةً) طيّب وماذا سيكون اسمُكَ غداً؟ لكن جوابَه الوحيد كان ضحكةً مجلجلةً وعينان تلمعان بفرحٍ نادر تمنيت لحظتها لو امتلكتُ تلك الضحكة الصافية.
لكن ومنذ ذلك اليوم وأنا ألعبُ مثلَ “غرغور/Grover” في برنامج “افتح يا سِمسِم” لعبةَ الـ”هنا” والـ”هناك”، إذ ما إِنْ أُصبِحُ “هناك” كشخصيةٍ مفترضةٍ في عالمٍ جديد؛ إلا وتصبحُ “الهناك” “هنا” في لعبةِ تبادلٍ فانتازيةٍ فلسفيةٍ لا نهائيةٍ تجعلُ من “أناي” مجرّدَ وهمٍ لذيذٍ يتحرّك كطيفٍ عابرٍ متحرر من قبضة الزمن باعتباره مسافة بين نقطتين؛ بين شخصيتين!
ثم أزيدُ اللعبةَ تشويقاً، وأنقلها إلى عتبةٍ جديدةٍ أقذفُ فيها “أنايَ” كما لو أنها كرةً مربوطةً بخيطٍ مطّاطيّ في لعبة “يويو/yoyo” ملوّنة. وهكذا أتسلّى بـ”أناي” الخاصة كما يحلو لـ”أناي” المجنونة أن تفعلَ كلما داهمني الواقع على حقيقته الصلبة كصلابة صخور “ميدوزا” الأسطورية.
أتسلّى، وأرمي “أناي” مثل عصا “البوميرانغ” وأتحاشى أن تصيبني بالغرور وجنون العظمة عند عودتها إليّ أو أن تنكسرَ فلا تعود أبداً كما كانت؛ تسليتي الأمتع في كونٍ من الهباء حولي.
يقول ماركيز: “هناكَ (أنا آخَر) يتجول حرّاً طليقاً في العالم، بدءاً من جزر الكاريبي إلى ما وراء المحيط الأطلسي، وصولاً إلى أمريكا. يُجري اللقاءات الصحفية، ويعاشر النساء، ويلقي محاضراتٍ لم ألقها يوماً في حياتي. الغريبُ هو أنّ ما يقوله “أنا الآخر” دقيقٌ جداً ويطابق حتى أفراحَ قلبي وأتراحَه، لكنّ العيبَ الوحيد الذي فيه هو أنه مُختَلقٌ حتى آخر حرفٍ فيه”(انتهى الاقتباس).
المفارقة بالنسبة إلي هي أن “ماركيز الحقيقي” مربوطٌ إلى الواقع بحقيقته كلّها، بماضيه وأخطائه، بسنوات فقره ومشاكساته ومسودات رواياته وشخوصه الافتراضيين الذين أصبحوا أكثر حقيقةً منه، إلى درجة أنّ الكثير من القراء يستوقفون ماركيز في الطريق، يعاتبونه ويتهمونه أنه بلا قلب؛ إذ كيف يموتُ العقيد “أورليانو بوينديا” في روايته الأعجوبة “مئة عام من العزلة” دون أن يتدخل لإنقاذه!
كأننا ننوسُ دوماً بين حقيقتين ضائعتين؛ الأولى هي مجرّدُ وهمٍ، والثانية هي صورتُنا المرسومة عن هذا الوهمٍ الأوّلي كما وصفنا أفلاطون ردّاً على رسّامٍ طلبَ منه أن يرسمَ “بروتريهاً” للفيلسوف، فقال له أفلاطون: ولماذا تريدُ أن ترسمَ وهماً عن وهم؟!
مثل حدبة كازيمودو!
وهكذا… وضعتُ “أناي” الماضية (هل أقول أنايَ الوهميّة؟) في حقيبة وأقفلت عليها. لكنها مع الزمن لم تمضِ ولم تتركني لشأني!
لم تضمحلّ كما الأشياء الزائلة، بل صارت ثقيلةً “مثل الهمّ على القلب” رغم كل جمالياتها وآلاف التفاصيل الناعمة التي شكّلتها… لكنْ ما باليد حيلة!
أفكر: كيف وأين وماذا عساي أن أفعلَ بهذه الصخرة المتصلّبة على شكل “أنا”؟ فلو تركتُها حبيسَة الحقيبة لن أستطيعَ الهرب منها، فهي أيضاً في تلافيف دماغي وسراديب روحي، ولا يمكن بأيّ حالٍ أن أهديها لأحد الأصدقاء أو أن أبيعها كقطعة خردة أو أثاثٍ قديم… فمَنْ سيرغبُ بشراءِ ماضي شخصٍ آخرَ مهما كان شديدَ الجمال والإثارة! ولن أستطيع أن أحملَ ماضيَّ على ظهري أينما ارتحلتُ، لأنه سيبدو مثل حدبة “كازيمودو” في رواية “أحدب نوتردام” للفرنسي (فيكتور هوغو) يشير إليها الناس كمصدر للشؤم أو كتحذيرٍ يمنعهم من الاقتراب.
غريبٌ كيف يصبحُ المرءُ هو نفسُه بكل تجلياته عبئاً ثقيلاً على نفسِه، والغريب أكثر هو أنه ما إنْ يقرر أن يتخلّص من ماضيه؛ سيصبح كمن يحكم على نفسه بالانتحار أو فقدانِ الذاكرة… إنها لعنة الوجود وفتنته، هي “خفة الكائن التي لا تُحتَمل” في مواجهة ثقلِ وجودِه نفسِه.
بين شكلين!
ربما هو إذاً صراعٌ بين شكلين من أشكال الوجود: الأول؛ أنْ تعيشَ ممتلئاً غنيّاً بكل المنمنمات الروحية التي مررت بها وأنت تحسُّ بأنك كلما أضفت ذكرى جديدة لحياتك؛ أصبحتَ ثقيلاً كأحجار “باندورا”.
والشكل الثاني: أن تعيشَ دون ذاكرة، ولا ذكريات، ولا آلام، ولا أرق، ولا هواجسَ ليلية مضنية… وهنا أيضاً لن تكون أكثرَ مِنْ مجرّد خردة على هيئة إنسان… فأيهما ستختار؟.