الحرية- لوريس عمران:
تشهد الساحة الاقتصادية السورية تحولات دقيقة، في ظل بروز موجة جديدة من الاستثمارات الخارجية، تتقدمها رساميل سعودية تعكس مؤشرات انفتاح إقليمي متبادل، وتقدّم فرصة حقيقية أمام الاقتصاد السوري لإعادة ترتيب أولوياته الإنتاجية، انطلاقاً من حاجته الملحة للتنمية وإعادة البناء.
وفي ظل هذه المؤشرات الإيجابية، يبرز دور الدولة السورية بصفتها الحاضن السيادي لهذا التحول، والمسؤولة عن توجيه التمويل الخارجي بما ينسجم مع المصالح الوطنية الكبرى. إذ لم تعد المسألة مجرد تدفّق رأسمالي، بل باتت تتطلب مقاربة شاملة تضمن الاستفادة القصوى من هذه الاستثمارات، وتمنع تشتتها أو انحرافها عن الأولويات التنموية للبلاد.
ميا: المطلوب ليس فقط جذب الرساميل بل ربطها بالقطاعات المنتجة بما يرسّخ الأمن الغذائي ويدعم الاستقلال الاقتصادي
الخبير الاقتصادي الدكتور علي ميا من جامعة اللاذقية، يرى أنّ الدولة السورية تمتلك من الرؤية والإمكانات ما يؤهلها لقيادة هذه المرحلة بحكمة وتوازن. ويؤكد أنّ المطلوب ليس فقط جذب الرساميل، بل ربطها بالقطاعات المنتجة كالزراعة والصناعات الغذائية والطاقة النظيفة، بما يرسّخ الأمن الغذائي ويدعم الاستقلال الاقتصادي.
وأشار ميا لصحيفتنا “الحرية” إلى أهمية بلورة خارطة استثمارات وطنية، تكون مرجعاً لجميع المستثمرين، وتضمن تكامل المشاريع الجديدة مع متطلبات إعادة الإعمار والتنمية. وعدّ ميّا أنّ الاستثمارات الخليجية، ولاسيما السعودية، تمتلك قدرة عالية على إحداث نقلة نوعية، إذا ما جرى دمجها في بنية الاقتصاد السوري ضمن رؤية تخطيطية واضحة.
وأكد الدكتور ميّا أنّ محافظة اللاذقية تُعدّ نموذجاً حياً لهذه الإمكانات، إذ تجمع بين الطابع الزراعي والموقع البحري، ما يؤهلها لاستقبال مشاريع سعودية واعدة في مجالات الصناعات الغذائية والتوضيب والتخزين، إلى جانب إمكانية إنشاء مراكز بحثية تطبيقية تدعم المزارع والمصدر في آنٍ معاً.
رسلان: الاستثمار الخارجي يمكن أن يشكل رافعة حقيقية للقطاع الصناعي المحلي
من جهته يرى الصناعي عبد الرحمن رسلان الذي يدير منشأة لصناعة الخيوط القطنية في اللاذقية، أنّ الاستثمار الخارجي يمكن أن يشكل رافعة حقيقية للقطاع الصناعي المحلي، شريطة الاستمرار في تعزيز التسهيلات الإدارية وتبسيط الإجراءات، وهو ما تعمل عليه الجهات الرسمية بوضوح في الآونة الأخيرة.
سلوم: الساحل السوري يمكن أن يتحول إلى مركز لتصدير المنتجات الزراعية عالية الجودة إذا تمّ توظيف البنى التحتية القائمة
أما المهندس الزراعي وسيم سلوم، الذي يشرف على مشروع استصلاح أراضٍ في ريف الحفة، فيؤكد أنّ الاستثمارات الزراعية القادمة، وخصوصاً من الشركاء الخليجيين، ستكون أكثر فاعلية إذا ما تمّ تنظيم شراكة مباشرة بين المستثمر والمزارع المحلي، من خلال أطر قانونية عادلة تحفظ الحقوق وتضمن العدالة في التعاقد.
وأشار سلوم إلى أنّ الساحل السوري يمكن أن يتحول إلى مركز لتصدير المنتجات الزراعية عالية الجودة، إذا تمّ توظيف البنى التحتية القائمة، ضمن شبكة لوجستية مدروسة تشرف عليها الدولة، وتضمن تكامل الحلقات الإنتاجية والتسويقية.
يتضح من خلال هذه الآراء أنّ المرحلة المقبلة تتطلب أعلى درجات التنسيق بين الدولة والمستثمر، ولاسيما في ظل عودة الشراكة الاقتصادية مع دول شقيقة كالمملكة العربية السعودية، التي تبدي اهتماماً متزايداً في الدخول إلى السوق السورية عبر قنوات إنتاجية طويلة الأمد.
إنّ الاستثمارات السعودية، بما تمثله من وزن مالي وخبرة إدارية، يمكن أن تتحول إلى عنصر فاعل في تعافي الاقتصاد السوري، شريطة أن تندرج ضمن أولويات التنمية الوطنية التي ترسمها الدولة السورية. فالتحدي اليوم لا يكمن في التمويل، بل في البناء الذكي لشراكات إستراتيجية تحترم السيادة وتخدم المجتمع.
وفي المحصلة، فإنّ الانفتاح الاقتصادي ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق تنمية مستقلة ومستدامة، تقودها الدولة السورية وفق رؤيتها، وتُوظّف فيها الاستثمارات الوافدة، وخصوصاً الخليجية، كأدوات للنهوض لا كوسائل للنفاذ العشوائي. فبين المال والسياسة، تبقى السيادة هي الأساس، والتنمية هي الهدف.