الحرية- إلهام عثمان:
يشير الواقع الرقمي إلى أن منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها “التيك توك”، تُشكل اليوم مسرحاً ضخماً لتناقضات المجتمع، حيث تتجسد ظاهرة التحديات بوجهين متضادين منها ما يلامس قاع الانحطاط الإنساني، وآخر يرتفع إلى سماء التضامن والخير، فما بدأ كمسابقات ترفيهية خفيفة، تحول إلى “تريندات شهرة” كشفت عن أزمة عميقة في القيم الاجتماعية، وفي الوقت ذاته، أظهرت قوة المنصات الرقمية حشد الدعم الإنساني.
هذا التناقض الصارخ، الذي يمتد من تحدي إهانة الأهل أو غيرهم مقابل المال، إلى تحدي يعج بالإنسانية كتحدي دعم غزة، يفرض تساؤلاً جوهرياً: هل أصبحت الكرامة الإنسانية مجرد عملة قابلة للتداول في سوق المشاهدات الرقمية؟
الكرامة في الميزان الرقمي
تكمن خطورة الظاهرة في تحويل الكرامة الإنسانية إلى سلعة قابلة للتداول مقابل بضعة دولارات أو زيادة في عدد المتابعين، كانتشار تحديات تطلب من المشاركين القيام بأفعال مشينة أو مهينة لذواتهم أو لغيرهم، وهو ما تجلى في تحديات مثل “ضرب الأم مقابل مبلغ مالي” أو “ارتداء الحجاب أو خلعه مقابل هاتف محمول”.
وهنا نرى أن استغلال الحاجة لانتهاك الكرامة مقابل المال” مثالاً صارخاً على هذا الانحدار الأخلاقي، حيث يطلب فيها صانعو محتوى من أشخاص غالباً ما يكونون من ذوي الحاجة، القيام بأفعال تخدش الحياء أو تنتهك الكرامة الشخصية، وبدلاً من أن يكون المال وسيلة للعيش الكريم، أصبح ثمناً للتخلي عن عزة النفس.
حالة أخرى موثقة عن شخص خاض تحدياً لتحمل الصفع المتكرر على الوجه مقابل مبلغ مالي كبير، ما أدى إلى تعرضه لإصابات بالغة، كل ذلك من أجل “مشاهدات” تحقق أرباحاً طائلة لصاحب التحدي.
هذا المشهد المأساوي يؤكد أننا أمام معادلة قاسية تحوّل الضعف إلى محتوى، وتستغل الحاجة المادية والنفسية لتحقيق الربح السريع.
فؤاد: تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة تنافس على الشهرة السريعة
متلازمة “الطفل الزجاجي”
وهنا يكشف استشاري الصحة النفسية د. خالد فؤاد ومن خلال حديثه مع صحيفتنا “الحرية” أن هذه الظاهرة و من منظور سيكولوجي عميق، أن انتشار التحديات المميتة والمهينة يرتبط بظاهرة نفسية تُعرف بـ”متلازمة الطفل الزجاجي”، نتيجة شعور المراهق بأنه ‘غير مرئي’ داخل محيطه الأسري، نتيجة للتجاهل أو غياب الاحتواء، يولد لديه فراغاً عاطفياً هائلاً، ما يدفعه للبحث عن إثبات الذات في العالم الافتراضي، عبر سلوكيات صادمة ومثيرة للانتباه.
البطولة المزيفة
من جهته كشف اختصاصي علم النفس الاجتماعي د. ناجي جاد الله، أنه ومع غياب الرقابة ولفهم دوافع الانخراط في هذه التحديات الخطيرة، فإن أصحاب الشخصيات الهيستيرية، ممن لديهم ميول استعراضية وحب للظهور، هم الأكثر عرضة للوقوع في فخ هذه التحديات، حيث يمثل لهم “اللايف” مسرحاً لتحقيق الذات المفقودة، حيث يسعى إلى بطولة مزيفة وشعور بالإنجاز، حتى لو كان الثمن هو المغامرة بحياته أو كرامته، وهو ما يفسر انجرافه وراء هذه التحديات القاتلة.
فوضى التدمير الرقمي
كما بين د. فؤاد أن الأزمة تكمن في غياب الالتزام بالمعايير الأخلاقية، وتحول المنصات إلى ساحة تنافس على الشهرة السريعة إذ تحولت السوشيال ميديا من قوة للتطوير إلى فوضى للتدمير في كثير من الأحيان.
في ذات السياق أشار جاد الله إلى أن المحتوى الهابط يجد طريقه للانتشار الأسرع بفضل الخوارزميات التي تفضل الإثارة على القيمة، وفي ظل غياب الرقابة الذاتية والمجتمعية، يصبح صانع المحتوى مستعداً لتقديم أي شيء، حتى لو كان انتهاكاً للكرامات، مادام أنه يحقق له ‘الترند’ والربح السريع.
التحدي الإنساني
وعلى النقيض تماماً من تحديات الإهانة، نجد الجانب المشرق للتحديات، حيث تُعيد لوسائل التواصل الاجتماعي دورها الإنساني والاجتماعي النبيل، هذا ما بينه جاد الله، إذ تُوجه طاقة الشهرة والتنافس نحو فعل الخير، لتتحول الشاشات الصغيرة إلى جسور للتضامن، كتحدي المشاهير لدعم غزة..
جاد الله: صانع المحتوى مستعد لتقديم أي شيء من أجل تحقيق ‘الترند’ والربح السريع
عندما تصبح الشهرة مسؤولية
لقد أظهرت الأزمة الإنسانية في غزة قوة التحدي الإيجابي، فقد تحدى فنانون ونجوم زملاءهم بمبالغ مالية ضخمة مقابل توجيهها لعمل خيري موجه للإغاثة، وفي هذا السياق، لم تقتصر المبادرات على النطاق العربي، بل امتدت لتشمل تحديات عالمية.
فقد شهد العالم مبادرات ضخمة مثل حفل فني لدعم جهود الإغاثة الإنسانية في “معاً من أجل فلسطين” والذي أقيم في لندن، حيث شارك فيه عدد من النجوم العالميين مثل ريتشارد جير (فنان أميركي)، وغيره حيث قاموا بحشد الدعم والتبرعات لصالح المتضررين.
وهنا أضاف جاد الله أن هذه المبادرات حولت المنصات الرقمية إلى غرفة عمليات إغاثية، حيث يتم توجيه ملايين الدولارات والمساعدات العينية بفضل قوة الانتشار الرقمي.
كما أكد جاد الله أن هذه التحديات الإيجابية تؤكد أن الشهرة ليست مجرد امتياز، بل هي مسؤولية أخلاقية يمكن توجيهها لخدمة القضايا الإنسانية العادلة، هذا ما أكده د.فؤاد لتصبح السوشيال ميديا أداة للتضامن بدلاً من أن تكون ساحة للعبث.
دعوة للوعي والاحتواء
وختم جاد الله بأن التحديات الرقمية، بوجهيها المتناقضين، هي مرآة تعكس حالة المجتمع، فبينما يستغل البعض ضعف الآخرين وحاجتهم، يوجه البعض الآخر طاقته نحو الإغاثة والتضامن.
بينما أضاف فؤاد أنه لابد من أن تتضافر جهود الأسرة والمؤسسات التعليمية والإعلامية لغرس الوعي بأهمية الكرامة الإنسانية، وخطورة الانجرار وراء الشهرة الزائفة، وإن الحل يبدأ من الاحتواء الأسري الذي يحمي المراهقين من متلازمة “الطفل الزجاجي.”