الدراما السورية.. عن “اللهجة” والاتكاء والتوظيف والمحاذير

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية: علي الراعي:

في زمن ما، من القرن الفائت، ربما يعود للستينيات، أو السبعينات؛ كان المسلسل السوري محصوراً في البيئة الدمشقية، وهو ما ساعد في انتشار (اللهجة الدمشقية) حينها، ووصلت لأن تكون اللهجة العربية الثانية بعد المصرية التي تنتشر في العالم العربي على زمن “دراما الأسود والأبيض”..
انتشرت حينها لأن العاملين في قطاع الدراما كانوا دمشقيين، حتى ساد الظن إنّ اللهجة الدمشقية، هي اللهجة العامة لكلِّ السوريين.. غير أنّ هذا لم يستمر طويلاً؛ فكان ثمة «انعطافة» في الدراما التلفزيونية، التي كانت بدايتها من مسلسل «نهاية رجل شجاع»، حيث بدأ كتاب آخرون ينتمون الى بيئات غير دمشقية يدخلون إلى عالم الدراما، ومن هنا كان هذا التنوع الذي حصل في عمليات الإبداع..

لهجات سورية

إذاً.. كان المشاهد العربي وحتى السوري قد تعرف على الدراما السورية في بداياتها دمشقية اللهجة، خصوصاً من خلال أعمال الفنانين «دريد ونهاد» الفنية المختلفة: (مسرح سينما وتلفزيون)، بعد تلك “الانعطافة” التي تعرف خلالها المشاهد على لهجات أخرى، فكانت “الحلبية” هي الأبرز ثم جاءت اللهجة الساحلية التي ظهرت في الأغنية منذ تسعينيات القرن العشرين وتحديداً منذ بداية أفلام المخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد: ليالي ابن آوى، رسائل شفهية، قمران وزيتونة، وغيرها. ‏
هنا اكتسبت الدراما السورية ومع توسع «المكان» وعدم حصره في حدود بيئة واحدة، الكثير من الغنى والتنوّع، وهو ما سنلحظه إنه أمست كندٍ للدراما المصرية طوال عقدي التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة.. ذلك أن العمل التلفزيوني الدرامي، يكاد يكون «رواية بصرية» وتكون شخصياتها من أمكنة ومن بيئات مختلفة .

‏الدراما ابنة بيئتها

فالعمل الذي يتحدث بلهجة البيئة التي تجري الأحداث فيها.. والفنان الحقيقي مهمته أن يتقن كلّ اللهجات، وإلا ما معنى التمثيل والتقمص، الذي هو اتفاق طبقة الصوت واللهجة واللكنة وموسيقا اللهجة، ذلك أن الإبداع الفني لا يعتمد على الحوار فقط، فهناك عناصر الإبداع الأخرى القادرة على توصيل المقولة والمعلومة والفكرة و«الناحية الجمالية وغير ذلك من عناصر».. لكن شرط «الجذب» إلى هذه اللهجات، هي أن تنحو قدر الإمكان نحو المبسط والمفهوم، أي لا تكون محلية بحتة.. وليس خطأ أن تقدّم كلَّ اللجهات السورية في هذه الدراما لتبرز كل هذا الغنى السوري.. فهذا فيه غنى للدراما السورية، وتجديد لها ولروحها، وهناك ضعف عند الممثل عندما لا يستطيع أن يتقن اللهجات، أو ضعف من المخرج عندما يتهرب من إدارة العمل بلهجات متعددة لأنه عندما تضطر لتحديد هوية العمل المكانية والزمانية فأنت مضطر أيضاً لأن تنطقه بلهجة هذا المكان. ‏

ثمة محاذير

صحيح أنه ثمة خطر كان لفت الانتباه إليه في وقت سابق، ونبه لمخاطره الفنان الراحل طلحت حمدي -كما ذكر لي مرة- فهو ورغم أنه يقول أنا ضد تكريس لهجة معينة على حساب عناصر العمل الأخرى، لكنه يشير إلى أن الكثير من «المناطق» عندنا لا تتقبل أن تتحدث عنها بالأمور السلبية، بل فقط بالخصال الحميدة على اعتبار أن تحديد اللهجة يُحدد بيئة العمل ومكانه، وهذا ما حصل معه سنة /1984/ في مسلسل «السنوات العجاف» الذي يعتبره حمدي من أهم ما أنتج في الدراما السورية.. وكان الإشكال الذي حصل حينها، في استخدامه اللهجة الحورانية.. وبتقديري قد تجاوزنا اليوم وقوع مثل هذا الإشكال.. ‏وحينها ثمة من ينصح باستخدام لهجة عامة تحاكي الفصحى اليوم في سبيل التهرب من “فخ” المناطقية الضيقة، غير أن الكثير من النقاد يرى أن قيمة العمل البصري «تلفزيون، سينما، مسرح» ليس في اللهجة تماماً وإن كانت هذه الأخيرة أحد عناصر نجاح العمل الفني.. فالقيمة الأكبر للروحانية التي يتحدث فيها هذا العمل.. ‏

الاتكاء على اللهجة

لكن للأسف هذه اللهجة كانت -في كثير من الأحيان- متكأ للعمل الفني، حتى كادت أن تكون مقصودة لذاتها، وكانت أقرب الى الرسائل الصوتية اليوم على أجهزة «الموبايلات» التي ترسل بين الأصدقاء كـ”نكات”، الأمر الذي أفقد مثل هذه الأعمال الفنية «الصدق» وكان الأمر فقط لاستجداء «كوميديا» لا مبرر لوجودها أصلاً، وبتقديري الفنان المبدع يستطيع أن يقدم الكوميديا دون هذا «الاتكاء» الثقيل، والفج. ‏
ذلك أن الحوار في الدراما تغير، وتطور حتى في اللهجة الدمشقية وصار الناس يقولون بدل: «السمس بتطلع من ورا الزوزة»؛ «الشمس بتطلع ومن ورا الجوزة».. أو بدل “يازالسة ع زجر” أغنية الراحل “أبو صياح” – رفيق سبيعي، أمست اليوم “ياجالسة عالجسر”، بمعنى حتى اللهجة لبيئة ما، لم تبق ثابتة، ودخلت في تطورات كثيرة، فمع تطور الزمن اختلف التعامل مع المسميات إلا إذا كان الأمر ضمن الظروف الشخصية الدرامية، وهنا برز اليوم ما نُعت بـ”اللهجة البضاء” التي تكاد أن تكون لهجة عامة لكلّ السوريين.

عن الصدق الفني

عند تقديم العمل الإبداعي، وليكون ناجحاً لا مناص من المحاولة لملامسة الصدق، وأقصد هنا “الصدق الفني”، أي عندما تقدّم له أحداثاً تجري في بيئة بحرية لابد أن تقدّم له أشخاصاً يتحدثون باللهجة الساحلية على تنوعها، وما شاهدناه إلى اليوم من «ساحلية» لا يتعدى “الريف الساحلي”، أو بعض مناطق هذا الريف، وغالباً الريف السوري في ستينيات القرن الماضي، وهي ليست كل الساحل وهكذا في الجبل والبادية..
وهناك شيء مهم في تنوع هذه اللهجات؛ هي أنك أحياناً تكتشف موقف البشر تجاه الأشياء من مسمياتها، فالطبيعة تؤثر في أسلوب اللهجة ونطقها، فلهجة ابن الجبل قاسية، ولهجة ابن الساحل ممدودة، وثمة أريحية في الدمشقية.. وللأمانة الصحفية، فقد نجحت الدراما السورية، أو لنقل كثيراً ما نجحت في تنويع اللهجات في الأعمال التلفزيونية التي قدمتها إلى اليوم.. وبقي أن نتعامل مع الطرح بجدية أكثر لنحصل على نتائج أفضل وهذا الأمر –التنوع- لصالح الدراما السورية، والممثل المبدع هو الذي يتمتع بحس موسيقي عال، وقادر على التلوين بكلِّ اللهجات المعروفة بإيقاع هذه اللهجات.. ولدى الدراما السورية الكثير من هؤلاء البارزين، الذين لديهم قدرة هائلة على التلوين..
وأشير أخيراً إلى أن هذا التلوين كان بارزاً في السينما وأكثر وضوحاً ومع ذلك لم نجد ما يعرقل انتشارها، رغم صعوبات هذا الانتشار.

Leave a Comment
آخر الأخبار