الحرية – بديع صنيج:
دعت الدكتورة هلال قصقص في المحاضرة التي ألقتها في المركز الثقافي العربي (كفرسوسة) تحت عنوان “نحو سوريا جديدة” إلى توظيف التراث واستلهام التجارب التاريخية لبناء سوريا الجديدة، وتساءلت في بداية النقاش الذي كان بدعوة من جمعية “هذه حياتي للتنمية المجتمعية”: أيهما يقود التغيير: الأحوال أم الأفكار؟ هل الظروف الصعبة، مثل الحرب والدمار، تفرض علينا التغيير أم الأفكار الجديدة التي تولد من العقول الشابة هي المحرك الأساسي للتغيير؟ لتضيف إن الجواب ليس بسيطاً، لأن التغيير الحقيقي يأتي من تفاعل الأحوال والأفكار مع بعضهما، فالظروف الصعبة تخلق الحاجة للتغيير، بمعنى أنه عندما يمر الإنسان بأزمات يصبح لديه دافع قوي ليبحث عن حلول، وفي الوقت ذاته فإن الأفكار الجديدة تعطي شكلاً ومعنى لهذا التغيير، لأنه من دون أفكار إبداعية، يبقى التغيير سطحياً ومؤقتاً، لذلك نحن الآن في أحوال صعبة تدفعنا أكثر نحو الإبداع والتفكير بحلول مستدامة، وشبابنا عندهم أفكار مذهلة قد تكون ركيزة لنهضة جديدة في سبيل خلق مجتمع جديد.
تاريخنا مليء بقصص النجاح
ودعت قصقص المحاضرة في قسم تاريخ الفن بجامعة فيكتوريا إلى استلهام النماذج الناجحة من تاريخ سوريا في كل شيء بما في ذلك مشروع الهوية البصرية الجديدة لسوريا الذي كلفت فيه وزارة الإعلام المصممين محمد سلوي ووسيم قدورة، وهما قاما بدورهما باستشارتها فيما يتعلق بالبحث التاريخي عن الحضارات السورية، وهو ما استدعى أن تبحث كثيراً وبمختلف اللغات عن معلومات هي خارج نطاق اختصاصها بالفن والعمارة الإسلامية، لكنها توصلت إلى مجموعة من الأفكار العامة التي لا تخص المشروع ذاته، ومنها ضرورة تطوير مناهج التاريخ في المدارس وربطها بإرثنا الحضاري الممتد لآلاف السنين، من حضارات ماري وإيبلا وأوغاريت، لتدمر ودمشق وحلب في العصور الإسلامية وما بعدها، قائلةً: تاريخنا مليء بقصص النجاح، والتطور، وفيها إبداع يكفي لكتابة مجلدات، ومع ذلك، أغلبنا لا يعرف عنه إلا القليل، وينبغي تطوير مناهجنا بطرق حديثة بحيث يشعر الطلاب أنهم جزء من تراثهم العريق، وفي الوقت ذاته يتعرفون على هويتهم وأصولهم، وبالتالي يشعرون بالفخر والانتماء ويصبح لديهم حافز للمحافظة عليها وأن يكونوا جزءاً من إعادة إحيائها، ويتم ذلك مع عدم الاقتصار على التعبير بالأحداث الكبرى، بل عبر التركيز على الحضارات القديمة التي ساهمت بتشكيل هويتنا، وربطها بالعصر الحديث بطريقة ذكية، خاصةً أن تراثنا السوري الحضاري تعرض لأكبر عمليات تدمير وتهريب خلال العقود الماضية عبر شبكات مافيا، كان هدفها مسح الذاكرة الثقافية للسوريين، لذا فإن النهوض بسوريا يوجب علينا أن نعيد التاريخ لكتب المدارس ونقدمّه بطريقة جديدة من خلال ربط المواد بواقع الطلاب، وتعزيز الهوية الوطنية من خلال تقديم الحضارات السورية كجزء من الهوية اليومية للطلاب، بحيث يحسوا أنهم ورثة لهذا التراث، إلى جانب تطوير المناهج بصريًا وتفاعليًا، وأيضاً ربط التاريخ بالحاضر.
سوريا لا تحتاج لاستيراد تجارب جاهزة
أما الفكرة الثانية التي تحدثت عنها قصقص فهي استلهام التجارب التاريخية السورية لإعادة الإعمار، وعدم الاقتداء بتجارب دول أخرى عربية أو أجنبية، وذلك لأن سوريا بخصوصيتها التاريخية والجغرافية والاجتماعية مختلفة تماماً عن تلك الدول ولأن الشعب السوري، بطبيعته وتاريخه، له طابع خاص متجذر في بيئته وهويته.
تقول: سوريا لا تحتاج لاستيراد تجارب جاهزة، لأنها ببساطة تمتلك إرثاً ممتلئاً بتجارب ناجحة عبر آلاف السنين. من مملكة إيبلا إلى تدمر، ومن نور الدين زنكي إلى العصر الأموي، كل حقبة من تاريخنا مليئة بأمثلة كيف استطاعت حضاراتنا أن تتجاوز تحديات كبيرة، وأن تبني أنظمة متطورة، وتترك بصمة عالمية.
وطرحت قصقص مثالاً عن (خطة مارشال) التي أعادت إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي برنامج اقتصادي أطلقته الولايات المتحدة عام 1947 لمساعدة أوروبا الغربية على التعافي من الحرب العالمية الثانية، بهدف إعادة بناء البنية التحتية والصناعة، ودعم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ومنع انتشار الشيوعية في أوروبا، وتعزيز التجارة بين أوروبا وأمريكا، وذلك من خلال 13 مليار دولار من المساعدات المالية (تعادل أكثر من 150 مليار دولار اليوم) واستفادت من الخطة 16دولة أوروبية وارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 35% بين عامي 1948 و1952، كما أدت إلى استقرار سياسي وأمني بعد الحرب، نتيجة الشفافية في إدارة الأموال وتوزيعها، ولأنها حققت بيئة اقتصادية داعمة للنمو.
هل تنجح خطة مارشال في سوريا؟
أما لماذا لا يمكن تطبيق خطة مارشال على إعادة إعمار سوريا؟ تجيب قصقص: بسبب العقوبات التي تعيق الاستقرار السياسي والأمني، ما يجعل تنفيذ مشاريع تنموية كبرى صعبًا، إلى جانب أن العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية تمنع تدفق الاستثمارات والمساعدات، كما أن سيطرة رجال الأعمال المرتبطين بالنظام البائد على الاقتصاد تعيق أي خطة تنموية فعالة، وهناك عامل آخر هو اختلاف الموارد الاقتصادية، فأوروبا امتلكت قاعدة صناعية متطورة ساعدت على النهوض بسرعة، بينما يعتمد الاقتصاد السوري تاريخيًا على الزراعة، التجارة، والصناعات الحرفية، وسوريا تفتقر إلى البنية التحتية الصناعية والمالية اللازمة لدفع عملية إعادة الإعمار بالطريقة نفسها، فضلاً عن النزوح الجماعي ما يجعل إعادة توحيد المجتمع وإعادة توطين السكان تحديًا كبيرًا، كما أن التأخر في رفع العقوبات تجعل من الصعب تحقيق توافق على خطط الإعمار وإعادة البناء، يضاف إليها شبه انهيار المؤسسات التعليمية والصحية والقانونية .
الحل البديل
أما الحل البديل بحسب الدكتورة قصقص فهو إعادة الإعمار وفق التجارب التاريخية السورية التي أثبتت نجاحها في مواجهة الأزمات، والتركيز على إعادة توحيد المجتمع وعودة النازحين كأولوية لإعادة البناء، وأيضاً إعادة بناء المؤسسات التعليمية والصحية لضمان نهوض مستدام. وكذلك تنمية الاقتصاد المحلي عبر دعم الزراعة والصناعات الحرفية بدلًا من الاعتماد على نموذج غير مناسب، وإيجاد حلول تتناسب مع الهوية السورية بدلًا من فرض نموذج غربي لا يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الاجتماعية والثقافية، تقول: إذا استوحينا حلولنا من تاريخنا، لن نعيد الإعمار فقط، وإنما نعيد بناء هوية سورية الوطنية. وكل مشروع جديد مستوحى من تراثنا سيجعل كل مواطن يشعر أنه جزء من هذه البلد، وأنه يساهم ببناء شي متجذر بتاريخ أجداده.
وأعطت قصقص أمثلة من تاريخنا وبإمكانها تكون مصدر إلهام لإعادة بناء سوريا بكل المجالات منها مملكة إيبلا وريادتها التجارية والاقتصادية، ومملكة ماري بتخطيطها الحضري وإدارتها الفعالة، ومملكة أوغاريت بابتكاراتها الثقافية ونهضتها المعرفية، وتدمر بتخطيطها العمراني المتكامل، إضافة إلى تجربة عمر بن عبد العزيز كنموذج للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، ونور الدين زنكي والتنمية الزراعية والإدارة العادلة، تنكز الناصري الذي حقق ازدهار التجارة والصناعات الحرفية في دمشق بين عامي 1312-1340، وهناك أيضاً تجربة مدحت باشا بتحديثه التعليمي والإداري.
الحرف اليدوية هوية ثقافية
كما تحدثت الدكتورة هلا عن الحرفي السوري وتأثيره العالمي عبر التاريخ، مبينةً أن الحرف اليدوية ليست مجرد تراث، بل هوية ثقافية، واقتصاد متكامل، وقطاع استراتيجي يمكن أن يكون ركيزة أساسية لإعادة الإعمار وتنشيط السياحة والتصدير، مستشهدةً بما قدمه أبولودورس الدمشقي لروما في القرن الثاني الميلادي والذي ما زال سوق تراجان وعموده والجسر فوق نهر الدانوب ماثلين للعيان على أهمية العمارة الدمشقية وتأثر العمارة الرومانية الكلاسيكية به، وقدمت مثالاً آخر هو عبد الرحمن الداخل وتأثيره على مملكة الأندلس، وتحدثت عن أثر الحرفيين المماليك السوريين على صناعة الزجاج في البندقية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وأيضاً عن دور الحرفيين السوريين في فلورنسا وسيينا خلال عصر النهضة، وعن إدخال تقنيات الخزف السوري إلى العمارة في سمرقند زمن تيمولنك، وإدخال فن الفسيفساء الدمشقي إلى العمارة العثمانية زمن السلطان سليم الأول في القرن السادس عشر وأيضاً تطوير فن البلاط الإزنيقي المستخدم في تزيين المساجد العثمانية الكبرى، و نقل تقنيات الزخرفة الخشبية المستخدمة في دمشق إلى القصور العثمانية.
خطر الاندثار
ونبّهت الدكتورة هلا قصقص إلى خطر اندثار الحرف اليدوية السورية في ظل غياب الدعم الحكومي والتمويل، وقلة الاهتمام بهذا القطاع، وعدم وجود حماية للمنتجات الحرفية، وكذلك عدم توفر فرص عمل مجزية للحرفيين، ما يدفع الأجيال الجديدة لترك المهنة في ظل انتشار المنتجات المقلدة والمستوردة التي تقتل الصناعة المحلية، إلى جانب تراجع السياحة، التي كانت أحد أهم مصادر دخل الحرفيين.
تقول: إعادة تنشيط الحرف اليدوية ضروري جداً، لأنه ليست تراثًا فحسب، بل اقتصاد متكامل، ويساهم في إعادة إحياء الهوية السورية، وغيرها، لذا ينبغي تأسيس هيئة وطنية لحماية ودعم الحرف التقليدية، وإدراجها ضمن برامج التعليم والتدريب في المدارس والمعاهد المتخصصة، ويجب أيضاً إنشاء مراكز تسويق داخلية وخارجية، وربط الحرف اليدوية بقطاع السياحة وتقديم الدعم اللوجستي لورش الحرفيين في المناطق الأثرية مثل
دمشق القديمة وحلب.