الحرية- نهى علي:
لا خيار أمام السوريين إلا دولة قوية حاضنة لجميع مكوناتها، تقوى بهم ويقوون بها، تقوم على ركائز متينة، وتزهو بشعبها كان يزهو بها.. ويتجاوزان معاً كل أشكال الوهن الطارئة نحو إطار متين شامل هو الدولة الوطنيّة بمفهومها العصري.
د. سلمان ريا: الحزب الواحد والزعيم الأبدي والأجهزة الأمنية أبدلت شرعية الدولة بشرعية أمنية
دولة وطنية
والباحث الدكتور سلمان ريا يرى أنّ ما تمرّ به سوريا من تحوّلات عميقة، يتجاوز حدود الأزمة الآنية، ليشكّل محطة مفصلية في مسار الدولة والمجتمع، تقتضي من الجميع، قيادةً وشعباً، إعادة التفكير في مفهوم الدولة، وبنية العقد الوطني، وآليات التفاعل بين المكوّنات الاجتماعية والسياسية ضمن إطار الوطن الواحد الجامع.
ثلاثية الخلل المزمن
ويضيف د. ريا في حديثه لصحيفتنا “الحرية”: لقد نشأت الدولة السورية الحديثة في القرن الماضي مثقلةً بثلاثة تحديات كبرى..أولها مشاريع تتجاوز الدولة: كالقومية العربية أو الاشتراكية، حيث اندفعت هذه الاتجاهات نحو بناء كيان أوسع من الدولة، فضعُفت بذلك شرعية الانتماء الوطني، وتراجعت الأولويات السيادية لمصلحة شعارات تتجاوز إمكانيات الواقع.
أثبتت التجارب أن وحدة سوريا تقوم على شراكة وطنية ومؤسسات تحتكم إلى القانون
وثانيها هويات دون الدولة.. من الطائفة إلى القبيلة، ومن الانتماء العرقي إلى الاصطفافات المذهبية، أسهمت هذه البُنى، في بعض محطّات التاريخ، في تفتيت البنية الوطنية، بدل أن تكون عامل غنى داخلها.
وثالثها نخب لم تنخرط في مشروع الدولة، إذ بقيت بعض النخب الثقافية والسياسية أسيرة الولاءات الجزئية أو التبعية الخارجية، فعجزت عن بلورة وعي وطني جامع يُسهم في ترسيخ أسس الدولة الحديثة.
من هنا يرى الباحث ريا أن الدولة نشأت ضعيفة، بين مشاريع تجرّها إلى ما فوقها، وهويات تُقوّضها من أسفل، ونخب تتعامل معها كأداة لا كغاية وطنية عليا.
شمولية
يتابع د. ريا: ثم دخلت الدولة حينها طور الشمولية، مستندةً إلى ثلاثية: الحزب الواحد، والزعيم الأبدي، والأجهزة الأمنية. وفي هذا الإطار، حلّت “شرعية الأمن” تدريجيًا محلّ “شرعية الدولة”، وأضحى المواطن مطالباً بالخضوع لا بالمشاركة، وبالولاء للنظام لا بالانتماء إلى مؤسسات راعية. ومع تصاعد منسوب القمع، تلاشت مساحات الأمل، وبدأت شرعية الدولة تتآكل، حتى انهار النموذج نفسه في محطّات عديدة، كما حصل في العراق وسوريا.
العودة إلى التراث
ولأنّ القيم الكبرى لا تسقط بالتقادم، يجزم د. ريا أنّ العودة إلى تراثنا الحضاري تُعيد التذكير بأنّ الاستقامة السياسية لا تنفصل عن المبادئ الأخلاقية. فقد قال تعالى:
“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ” (النحل: 90)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”
وسُئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟”
وفي هذا السياق، من المفيد التذكير بما دوّنه الماوردي في كتابه (تسهيل النظر وتعديل الظفر)، حين لخّص أسس استقرار الدولة بـ: “دين متّبع، وعدل شامل، وأمن عام، وخصم دائم، وأمل فسيح.”
تجارب مريرة سبقت
ومن تجارب الماضي القريب يصل الدكتور ريا إلى مسلّمة تؤكد أن الدولة الحقيقية تُنتج الأمل، وتبني المستقبل لا تسجن شعبها في الماضي. أما الدولة التي قامت على الاستبداد، فإنها أغلقت أبواب الأمل، وغالت في رفع شعار الأمن حتى تفقده، فكانت قاسية على مواطنيها، رخوة أمام خصومها، وتنهار من داخلها قبل أن يُمسّها خطرٌ خارجي.
ترسيخ السلم الأهلي كأولوية وطنية وتعزيز ثقافة التعايش
فبرأيه أثبتت التجربة أنّ وحدة سوريا لا تقوم على مركزية القرار وحدها، بل على شراكة وطنية حقيقية، تعترف بكلّ مكوّن، وتحمي التنوّع، وتُدير الخلاف ضمن مؤسسات تحتكم إلى القانون، وتُكرّس العدالة والتفاهم لا الغلبة والتنافر.
السلم الأهلي
يعدّ الباحث ريا أن سوريا اليوم في أمسّ الحاجة إلى ترسيخ السلم الأهلي كأولوية وطنية، وإلى تعزيز ثقافة التعايش بوصفها لبّ الهوية السورية، لا خياراً ظرفياً. فالوطن لا يُبنى بالإكراه، بل يتطلب نفساً طويلاً من العمل المشترك، وإرادة صادقة في مداواة الجراح، ورؤية جديدة تعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس من الاحترام والتوازن.
مواطنة
ومن أجل صون وحدة البلاد، لا بد من إعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة الكاملة، التي تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ولا تمنح الامتياز إلا للكفاءة والانتماء الصادق. فحين يشعر كل فرد أنه شريك حقيقي في الدولة، يتحول الولاء الوطني إلى قوة دافعة، وتُصبح الدولة مرآة الجميع لا مرآة فئة بعينها.
حصر السلاح
وبرأي محدثنا..لا يمكن الحديث عن استقرار دائم من دون حصر السلاح بيد الدولة الشرعية، باعتبارها التعبير الأعلى عن الإرادة الوطنية الجامعة، وبجيش وطني موحّد يحمي السيادة ويصون الأرض ويقف على مسافة واحدة من كل أبنائها. فأي سلاح خارج هذا الإطار هو تهديد مباشر للسلم الأهلي ولوحدة الدولة، مهما كانت المبررات أو التسميات.
تنمية
كذلك، فإنّ تحقيق التنمية المتوازنة يتطلّب تبنّي اللامركزية الإدارية والاقتصادية بشكل عادل، يضمن توزيعاً متكافئاً للموارد، ويقرب مؤسسات الدولة من المواطنين، دون المساس بوحدة القرار السيادي أو هيبة الدولة.
حرية المعتقد
وفي سياق بناء الدولة الحديثة، تبرز أهمية تحييد الدين عن الصراع السياسي، وصون حرية المعتقد، مع احترام الرمزية الروحية للأديان بوصفها مصادر للقيم الأخلاقية، لا أدوات للاستقطاب. فالدولة المدنية التي ننشدها تحمي الدين من التوظيف السياسي، وتحمي السياسة من القداسة، لتبقى السياسة تدبيراً عقلانياً، والدين ضميراً حيّاً.