الحرية- حسين الإبراهيم:
1. كيف نعرف أن النص الذي نقرأه كُتب بواسطة آلة؟
2. هل فقدت الكتابة معناها حين أصبحت قابلة للتوليد بضغطة زر؟
3. لماذا أصبح من الضروري أن نميّز بين الكاتب الحقيقي والذكاء الاصطناعي؟
4. أين يكمن الفرق بين المحتوى والمقال؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينتج مقالاً معرفياً؟
يضعنا الإنتاج الآلي للمواد الصحفية أمام تحدي إعادة تعريف الكتابة: هل ما نقرؤه اليوم هو نتاج تجربة إنسانية أم مجرد توليد لغوي؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتب مقالاً يحمل رؤية، إحساساً، وذاكرة؟ أم إننا أمام محتوى بلا روح، يُشبه النص لكنه لا يُشبهنا؟
هذه الإشكالية تنبع من الأسئلة الأربعة، وتفتح أفقاً للمعالجة التحليلية والسرد الذاتي، وتُمهّد لطرح المعطيات والمخرجات المعرفية لاحقًا.
السؤال المعرفي
تسابقنا الخوارزميات محاولة الكتابة بدلاً منّا، ولم يعد السؤال “من كتب هذا المقال؟” مجرد فضول صحفي، بل أصبح سؤالاً معرفياً يمس جوهر الكتابة نفسها. هل ما نقرؤه اليوم هو نتاج تجربة إنسانية؟ أم مجرد توليد لغوي بلا ذاكرة؟
دخل الذكاء الاصطناعي إلى غرف التحرير، وبدأ يكتب نصوصاً تبدو متماسكة، دقيقة، وربما حتى “مقنعة”. لكن هل يكفي التماسك اللغوي لنقول إننا أمام مقال؟ وهل يمكن للآلة أن تكتب فكرة؟ أن تحسّ بجملة؟ أن تترك أثراً؟
هذه الأسئلة لا تُطرح من باب الخوف من التقنية، بل من باب الدفاع عن المعنى. فإذا كانت الكتابة فعلاً إنسانياً، فهل يمكن استبداله؟ وإذا كانت المعرفة تُبنى عبر التجربة، فهل يمكن توليدها عبر نموذج لغوي؟
حين تتكلم الأرقام وتُحاورنا النصوص
• نسبة المحتوى المكتوب بالذكاء الاصطناعي وفقاً لتقرير صادر عن شركة Originality.ai، فإن أكثر من 57% من المحتوى المنشور على الإنترنت في عام 2024 تم إنشاؤه جزئياً أو كلياً بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي. هذا الرقم لا يعكس فقط انتشار التقنية، بل يطرح سؤالاً جوهرياً: هل نقرأ أفكاراً أم مجرد مولدات لغوي؟
• الفرق بين الكتابة البشرية والآلية دراسة من جامعة Stanford قارنت بين مقالات كتبها صحفيون وأخرى أنتجتها نماذج لغوية. النتائج أظهرت أن المقالات البشرية تحتوي على عمق تأويلي أعلى بنسبة 38%، بينما تميزت المقالات الآلية بـتماسك لغوي أعلى بنسبة 22%، لكنها افتقرت إلى السياق الثقافي والتجربة الشخصية.
• تراجع الثقة في المحتوى الرقمي: استطلاع رأي أجرته Reuters Institute كشف أن 42% من القراء لا يثقون بالمحتوى الرقمي إذا لم يُذكر اسم الكاتب أو خلفيته. وهذا يعكس أهمية الهوية الإنسانية في بناء الثقة المعرفية.
الكتابة كذاكرة إنسانية
في كتابه The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains، يكتب Nicholas Carr:
“الكتابة ليست مجرد وسيلة لحفظ الأفكار، بل هي امتداد لذاكرة الإنسان. حين نكتب، فإننا نُعيد تشكيل التجربة، نُعيد ترتيبها، ونمنحها معنى.”
ويضيف في موضع آخر:
“الآلة لا تملك ذاكرة، بل تملك سجلاً. أما الإنسان، فذاكرته انتقائية، عاطفية، ومشحونة بالزمن.”
هذا التمييز بين “الذاكرة” و”السجل” يضعنا أمام سؤال جوهري: هل يمكن للكتابة أن تكون فعلاً إنسانياً إذا فقدت ذاكرتها؟
الكتابة كبحث عن الفهم
يقول الكاتب Douglas Rushkoff، في أحد مقالاته حول الذكاء الاصطناعي واللغة:
“الآلة لا تكتب لتفهم، بل لتُفهم. أما الإنسان، فيكتب لأنه لا يزال يبحث عن الفهم.”
ويتابع:
“كل جملة يكتبها الإنسان هي محاولة لفهم نفسه، العالم، والآخر. أما الجملة التي تولدها الآلة، فهي محاولة لإرضاء النموذج الإحصائي.”
هذا الاقتباس يسلط الضوء على الفرق بين الكتابة كرحلة داخلية، وبين الكتابة كوظيفة خارجية.
الكتابة كذاكرة وكبحث عن الفهم
حين بدأت الكتابة في سبعينيات القرن الماضي، لم تكن الكلمات بالنسبة لي مجرد أدوات لنقل المعلومة، بل كانت امتداداً للذاكرة. في مجلة الطلبة، وصحيفة البعث، ثم تشرين، كنت أكتب لأفهم، لا لأُفهّم فقط. كنت أبحث عن المعنى في كل تحقيق، وعن الذات في كل زاوية صحفية. ولم تكن الكتابة آنذاك فعلاً ميكانيكياً، بل طقساً وجودياً، كما وصفه Nicholas Carr بقوله:
“الكتابة ليست مجرد وسيلة لحفظ الأفكار، بل هي امتداد لذاكرة الإنسان.”
ذاكرتي الصحفية لم تكن أرشيفاً، بل كانت حياة تُعاد صياغتها مع كل مقال. وحين انتقلت إلى الإعلام الرقمي، لم أفقد هذا الإحساس، بل حاولت أن أزرعه في بيئة جديدة، رغم أن الخوارزميات كانت تكتب بسرعة، وبلا تردد.
ميزات النص المولّد بالذكاء الاصطناعي
لم يعد السؤال الأهم: “هل يستطيع الذكاء الاصطناعي الكتابة؟”، بل: “كيف نميّز النص البشري عن النص الآلي؟” وهو ما يتطلب تفكيك السمات الأسلوبية والمعرفية التي تميز النصوص المولّدة آليًا، لنفهم ما الذي يجعلها تبدو “مصطنعة”، رغم تماسكها الظاهري.
أولًا: الأسلوب العام واللغة
غالبًا ما تتسم النصوص الآلية بلغة رسمية أو محايدة إلى حدٍّ مفرط، تخلو من الانفعالات أو النبرة الذاتية. فتتكرر فيها العبارات بصيغ مختلفة، وكأنها تحاول ملء الفراغ لا التعبير عن فكرة. ورغم أن الجمل تكون سليمة نحوياً، إلا أنها أحياناً تفتقر للمنطق الداخلي أو العمق التأويلي، فتبدو كأنها “تقول كل شيء دون أن تقول شيئًا”.
ثانياً: المحتوى والمعلومات
يميل المحتوى في هذه النصوص إلى العمومية، حيث تُعرض معلومات دون تفاصيل دقيقة أو إحالات إلى مصادر موثوقة. وتستخدم عبارات انتقالية (جوكر) مثل “من ناحية أخرى”، “في الختام”، “بالمقابل”، وهو ما يمنحها طابعاً تقريرياً نمطياً، لا ينبض بالحياة.
ثالثاً: الهيكل والتنظيم
من أبرز سمات النصوص المولّدة بالذكاء الاصطناعي أنها تتبع هيكلاً نمطياً مثالياً إلى حدٍّ ممل: مقدمة، عرض، خاتمة. هذا التنظيم، رغم وضوحه، لا يعكس بالضرورة خصوصية المهنة الصحفية، التي تتطلب حسًّا سرديًا، ومرونة في البناء، وقدرة على كسر التوقعات.
في النص الآلي، تبدو الفقرات متساوية الطول تقريباً، وكأنها قُطعت بمسطرة لغوية لا تعرف التفاوت الإيقاعي أو التوتر السردي. لا توجد فقرات تنفجر فجأة بفكرة، أو تنكمش لتترك مساحة للتأمل. كل شيء منضبط، لكنه بلا حياة.
الصحفي الحقيقي لا يكتب وفق قالب جامد، بل يشتبك مع مادته، يُعيد ترتيبها، يُفاجئ القارئ، ويكسر الإيقاع حين يحتاج. أما النص الآلي، فيبدو وكأنه يُكتب ليُرضي الخوارزمية، لا ليُحاور القارئ. لا توجد فيه لحظات توقف، أو انفعالات، أو سرديات ذاتية تُضفي طابعاً إنسانياً. يغيب الحوار، وتغيب الأسئلة الداخلية، ويغيب صوت الكاتب.
هذا الغياب لا يُعدّ مجرد نقص فني، بل هو فقدان للهوية المهنية. فالصحفي لا يُنظّم نصه فقط ليكون واضحاً، بل ليكون مؤثراً، متفاعلاً، نابضاً بالجدل. النص الآلي، في المقابل، يُنظّم ليكون قابلاً للقراءة، لكنه لا يُنظّم ليكون جديراً بالتفكير.
شخصياً وضعت لنفسي قالباً تحريرياً، يتطلب مثلاً أن يبدأ كل قسم بجملة “قوية” أو استفهامية مشحونة، وأن يثير سؤالاً جديداً في كل فقرة. هذا الأسلوب لا يمكن أن يُولد آلياً، لأنه يتطلب وعياً بالسياق، وجرأة في الطرح، وذكاءً سرديًا لا يتوفر في النماذج اللغوية الجامدة.
رابعاً: غياب السياق المحلي أو الثقافي
يتجاهل النص الآلي غالباً التفاصيل المرتبطة بالمكان أو الزمان، فلا يذكر أحداثاً واقعية أو شخصيات محلية بدقة. يبدو وكأنه مكتوب من فراغ معرفي، لا من تجربة أو ذاكرة، ما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان، لكنه غير مرتبط بأيٍّ منهما.
لا تكمن المشكلة في قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد النصوص، بل في غياب “الكاتب” خلفها. فهل يمكن للكتابة أن تظل فعلاً إنسانياً في زمن تُنتج فيه المقالات بلا ذاكرة؟ وهل يكفي التماسك اللغوي ليمنح النص قيمة؟ ربما علينا أن نعيد تعريف الكتابة، لا بوصفها إنتاجاً لغوياً، بل بوصفها تعبيراً عن تجربة، واحتكاكاً مع المحيط.