الحرية– مها سلطان:
لماذا يبدو العالم -خصوصاً أوروبا- وكأنه بانتظار «يالطا» جديدة بعد الاتصال الهاتفي يوم الأربعاء الماضي بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين؟
أوروبا بصحفها الرئيسية اعتبرت -في أعقاب الاتصال- أن «العالم الآن هو بين ترامب وبوتين» أي أن كليهما بات على خط «يالطا» جديدة لتقاسم العالم، ولكن هذه المرة منفردين، وحيث لا منتصرين ولا مهزومين، كما كان الحال في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقمة يالطا التي تقاسم فيها المنتصرون العالم.. هكذا كان حال القمة أو ما يُفترض أن تكون نتائجها، لولا اندلاع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي مع حلول عام 1946 أي بعد عام من قمة يالطا.
هل في هذا مبالغة من نوع ما؟
ربما.. وربما لا.
علماً أن فريقاً واسعاً من المراقبين يرى أن ما ذهبت إليه أوروبا ليس مبالغة بقدر ما هو قراءة مغلوطة لنهج ترامب في ولايته الجديدة بخصوص السياسات الخارجية وأهدافها بعيدة المدى وانعكاسها على أميركا داخلياً، بحيث يبدو ترامب كمن يريد هدم كامل الهيكل لبناء أميركا أخرى «لا تموت» كما فعل «الآباء المؤسسون» لأميركا الحالية.. وغير خافٍ على أحد كم الأزمات الداخلية التي وصلت إليها أميركا، وحجم التحديات التي تواجهها في الخارج في ظل بروز أقطاب وتكتلات وقوى عالمية تشكل تهديداً فعلياً للزعامة الأميركية.
ترامب وبوتين عندما يتفقان على اللقاء في السعودية
بكل الأحوال، هذا ما قرأته أوروبا، فكيف يمكن لنا نحن في المنطقة أن نقرأ هذا الاتصال الهاتفي؟
بداية، لا بد أن نبتعد أن نظريات «من تنازل ومن فاز» في تحليل هذا الاتصال كشكل ومضمون، ومن يقرؤه كتنازل أميركي فهو بالمطلق لا يفهم السياسات الأميركية وكيف تعمل داخلياً وعالمياً، أياً يكن الرئيس الجالس في المكتب البيضاوي، علماً أنه بتتبع التاريخ الأميركي لن يكون هناك أي صعوبة في معرفة وفهم كيف أن أميركا في كل مرحلة ومنعطف تاريخي تستطيع إيجاد حلول ومخارج لتضمن استمرار زعامتها، وهذا ما تفعله حالياً.
نعود إلى المنطقة وكيف تقرأ هذا الاتصال؟
بلا شك، لم يكن الاتصال مجرد خبر بالنسبة للمنطقة، أو أن أوكرانيا فقط هي من كانت على أجندة الاتصال الذي استمر ساعة ونصف الساعة، ووصفه ترامب بالرائع.. لماذا؟
لأمرين: الأول متعلق بالسعودية، والثاني متعلق بسوريا ورئيسها السيد أحمد الشرع (إذا صحّت قراءة التزامن ما بين اتصال ترامب مع بوتين، واتصال بوتين مع الرئيس الشرع).
ماذا عن سوريا وكيف يمكن قراءة «التزامن» مع اتصال بوتين بالرئيس الشرع؟
بالنسبة للمنطقة، الأهم في خبر الاتصال، هو السعودية، بعد إعلان ترامب أن لقاءه مع بوتين سيكون في السعودية، وعندما نتحدث عن ترامب وبوتين في السعودية، فهذا يعني أننا نتحدث عن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وعن لقاء ثلاثي، أي عن قمة مهمة جداً، ولا نعتقد أن أحداً يتوهم بأن هذا اللقاء سيكون متعلقاً بأوكرانيا فقط .. ومن يعلم، فقد ينضم مسؤولين آخرين لهذه القمة.
صحيح أن موعد اللقاء لم يتحدد بعد، إلا أن التوقعات ترجح أن اللقاء سيكون قريباً.. لماذا؟
أولاً لأن السعودية أعلنت ترحيبها باستضافته.. وثانياً لأن كثيراً من القضايا العالمية، خصوصاً في منطقتنا، وصلت إلى مفترقات تحتم اللقاء والتفاوض والاتفاق، وإذا ما اعتبرنا أن كل العالم يتواجد في منطقتنا (تحدياً الخصوم الكبار: أميركا، روسيا، الصين) مضافاً إليهم قوى في المنطقة لا يُستهان بها.. وإذا ما اخذنا بالاعتبار المنعطف التاريخي الحالي بالنسبة لأميركا، كما ذكرنا آنفاً.. فهذا يعني أن اللقاء لا بد أن يكون قريباً، ولا بد أن يكون في السعودية لمكانتها وحضورها، ولكونها مقبولة من الجميع، وهي المكان الأنسب، حسب المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف.
أن يتم اللقاء في السعودية فهذا يعني أن قضايا المنطقة حاضرة، وعلى رأسها غزة، وما طرحه ترامب حولها، فهناك مروحة واسعة جداً من الزيارات واللقاءات والتصريحات المستمرة بصورة مكثفة حول غزة، للانتهاء من مسألة غزة (بعد فك عقدة مصر والأردن اللتين تعلنان رفضهما خطة ترامب، خصوصاً لناحية تهجير أهل غزة) هذا من جهة.. ومن جهة ثانية، هناك التصريحات الإسرائيلية حول إقامة دولة فلسطينية على «أراضيها الشاسعة» والتي أغضبت السعودية، فردت بمزيد من التأكيد على موقفها الداعم لغزة، ولمصر والأردن، وهذا ما سيُعقّد بالتأكيد مخططات ترامب لغزة (وللمنطقة عموماً) وربما انعكست هذه التصريحات الإسرائيلية على بعض جوانب العلاقات السعودية- الأميركية، بصورة سلبية.
مسألة بحث قضايا المنطقة في اتصال ترامب/بوتين، جاء في البيانين الصادرين عن كل من واشنطن وموسكو، وطبعاً كانت إيران (بملفها النووي) حاضرة، علماً أن حضور إيران يتجاوز النووي نحو دورها في المنطقة، السياسي والعسكري، وهذا هو الأهم بالنسبة لأميركا وروسيا، ولدول عدة في المنطقة.
الأمر الثاني المتعلق بسوريا، تم تظهيره بالاتصال الهاتفي الذي أجراه الأربعاء الماضي الرئيس بوتين مع الرئيس الشرع، مهنئاً، ومتمنياً له النجاح في مهامه الرئاسية، وفق بيان للكرملين أوضح أيضاً أنه جرى تبادل وجهات النظر بشكل مستفيض حول الوضع الحالي في سوريا، وأن المحادثة الهاتفية كانت بناءة وعملية ومفيدة.
وإذا صحت قراءة التزامن بين هذا الاتصال والاتصال بين ترامب وبوتين (كما ذكرنا آنفاً) ولأن المسار السوري مرتبط بجميع مسارات المنطقة، وعلى رأسها غزة، فإن سوريا أيضاً ستكون حاضرة في لقاء ترامب/ بوتين المرتقب في السعودية.. ومن يدري فقد يكون لقاء موسعاً إذا ما أخذنا بالاعتبار محطات عدة ستكون سابقة، منها القمة العربية الطارئة في 27 شباط الجاري، وقمة عربية إسلامية ستليها، إلى جانب استمرار النشاط الدبلوماسي السياسي.. وعليه قد تكون سوريا حاضرة ليس فقط على جدول محادثات اللقاء، بل ربما بصورة رسمية.
وكان الرئيس الشرع، اعتبر أن ترامب شخص إيجابي مهتم ببناء السلام في المنطقة، وقال في تصريحات الاثنين الماضي خلال مقابلة في البودكاست السياسي البريطاني الشهير «The_Rest_Is_Politics» مع الصحافي والسياسي أليستر كامبل بخصوص أفكار ترامب بشكل عام: إذا تحولت أفكار ترامب إلى واقع فقد يكون له دور مهم في تحقيق السلام العالمي.
لا شك أن اتصال بوتين مع الرئيس الشرع تمت قراءته على أكثر من مستوى، حتى في مستوى مجادلة البعض في تأخره، فإن هذا التأخر بعلوم السياسة والعلاقات الدولية له ضروراته وأهدافه.
هذا الاتصال من بوتين، عزز صوابية السياسة السورية، وأعاد إلى الأذهان مباشرة تعامل القيادة السورية الجديدة مع روسيا، وتواجدها في سوريا. كان هناك بعد نظر في كل تصريح للقيادة السورية بخصوص روسيا.. وفيما كان المراقبون يتوقعون طردها بطريقة مذلة، كان الرئيس الشرع يؤكد رفض التعامل مع روسيا إلا بما يليق بها..
اليوم يبدو أن هذا التعامل بدأ يؤتي ثماره، وأن اتصال بوتين هو أبعد مدى وتأثيراً من مجرد اتصال تهنئة تقتضيه الدبلوماسية.. والظروف المستجدة.
وما علينا إلا أن ننتظر لنرى.. ودائماً لكل حادث حديث.