الشرق الأوسط وحروب «الرمال المتحركة».. تشابك الجغرافيا الدموية مع الجغرافيا الربحية

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية – مها سلطان:

في أوساط السياسيين الأميركيين، مسؤولون ومحللون، لطالما شاع توصيف شهير يشبه أزمات الشرق الأوسط بالرمال المتحركة، تبدو ساكنة من بعيد لكنها تبتلع كل من يقترب منها. هذا التوصيف يُضاف إليه اليوم بعدٌ جديد يتمثل بدونالد ترامب، الرئيس الأميركي، لكنه بعدٌ يقسّم المراقبين ما بين كونه عاملاً يهدد بتوسيع رقعة هذه الرمال وتسريع حركة دواماتها، وما بين قدرته على ضبط إيقاع التوسع والحركة. لكن ما يتفق عليه المراقبون عموماً هو أن الشرق الأوسط مع ولاية ترامب الحالية لن يكون على الموضع والموقع نفسه في نهايتها.

من هذه النقطة الأخيرة يبرز سؤال: هل أن ذلك التوصيف ما زال صحيحاً، وما زال يُمثل إحدى القواعد الأميركية الأساسية في التعامل الأميركي مع الشرق الأوسط، بمعنى إدارة الملفات (أزمات وحروب) من بعيد (حروب الظل) أم إنه سقط تماماً مع بدء ولاية ترامب بداية هذا العام، وكان العنوان الأبرز للسقوط الحرب الإيرانية الإسرائيلية؟

الحرب الإيرانية الإسرائيلة كانت منعطفاً كبيراً حاداً لكنها في الوقت نفسه لم تكسر حدة «ستاتيك» قائم منذ طوفان الأقصى.. الحرب لم تنته بعد في ظل هدنة مراوغة.. وتأجيل النهاية الحاسمة لأسباب غير واضحة من قبل الأميركي والإيراني

لا شك أن حرب الأيام الـ12  ما بين إيران وإسرائيل، كانت منعطفاً كبيراً حاداً، لكنها في الوقت نفسه لم تكسر حدّة «ستاتيك» قائم منذ طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023، في ظل أنها لم تنتهِ، حيث أن طبول العودة ما زالت تُقرع في ظل هدنة مراوغة، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية فهذه الحرب التي كان الاعتقاد الواسع فيها أنها ستترك عواقب وخيمة وتفتح مسارات حرب مفتوحة في الزمان والمكان، وبما يجعل رمال الشرق الأوسط المتحركة خارج كل توقع أو سيطرة…. لم تكن هذه الحرب كذلك، بل تم اعتماد تأجيل النهاية، لأسباب لا تبدو واضحة حتى الآن (ومن قبل الجانبين الإيراني والأميركي) حيث اختارت إيران رداً رمزياً على قرار ترامب ضرب منشآتها النووية.. ترامب نفسه اختار ضربة استعراضية لهذه المنشآت إذا ما صحّت التقارير التي تحدثت عن أن مسار النووي الإيراني لم يتأثر بصورة نهائية، وأنه ما زال قادراً على النهوض خلال أشهر (وفق تصريحات البنتاغون). 

في المحصلة الحقيقية، لم تكن هذه الحرب حرباً تحولية، بل كانت مجرد حرب غير حاسمة، لكن في الوقت نفسه يمكن القول أنها أحدثت أو وسعت مسارات أخرى في المنطقة، وربما كان هذا هدف ترامب من وراء منح اسرائيل الضوء الأخضر لمهاجمة إيران ومن ثم قراره التدخل المباشر وضرب المنشآت النووية الإيرانية، ولا يهم هنا إن كانت الضربة حقيقية أم استعراضية.

السؤال الأساسي لم يعد يتركز على ما إذا كانت أميركا ستنجح في تشكيل شرق أوسط جديد فهذا الشرق سيتشكل حكماً وحتماً بأميركا أو من دونها أو بالشراكة.. السؤال: هل سيكون هادئاً كخرائط وتحالفات ومسارات

ربما يفيد هنا إيراد تصريح لترامب في 29 الشهر الماضي، حيث قال: أعتقد أننا سنبدأ في حشد الدعم، لأن إيران كانت المشكلة الرئيسية.

هذا التصريح تم إسقاطه مباشرة على مسار التطبيع في المنطقة لناحية ضم دول جديدة إليه. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو صرح غير مرة أن «انتصار إسرائيل على إيران فتح فرصة دراماتيكية لتوسيع اتفاقيات السلام».

هل هذا هو الهدف من وراء مهاجمة إيران؟

ليس بالضبط. كان أحد الأهداف. الحرب لم تنته وإن استمر الحديث الأميركي عن تفاوض قريب مع إيران. ولأنه أحد الأهداف فإن جولة ثانية من الحرب غير مستبعدة.

هناك من يقول إن ترامب توصل إلى نتيجة مفادها أنه من الصعب ردع الخصوم البعيدين بالصواريخ، ولذلك هو تفاوض خلف الكواليس مع الإيرانيين على «التوقف عند هذا الحد».

كل التحليلات تبدو صحيحة  في ظل عدم وضوح الأهداف، وفي ظل أن الشرق الأوسط الجديد ما زال قيد التشكيل، وما زالت محطاته في كثير منها تفرضها تطورات المسارات، وليس مخططات جاهزة يتم تنفيذها.

بكل الأحوال، لم يعد السؤال الأساسي هنا، هل تنجح أميركا في تحقيق هدفها، بل السؤال يتمثل فيما إذا كان «الشرق الأوسط الجديد» سيكون ساكناً كخرائط وتحالفات مسارات؟

ترامب ومسؤولو إدارته يعملون على قلب مسار الجغرافيا بمفهومه العسكري حيث أثبتت حروب أميركا من فيتنام إلى العراق أنها مكلفة من غير طائل ومستدامة بصورة غير استراتيجية وقادت إلى تطورات صبت في مصلحة الخصوم

لنجيب عن هذا السؤال ربما علينا التركيز على القراءات الاقتصادية بخصوص ما تشهده المنطقة من تطورات دراماتيكية، لأن الشرق الأوسط الجديد لا يُعاد تشكيله هذه المرة على الورق، كما حال «سايكس بيكو» قبل قرن من الآن، بل يُعاد تشكيله على الأرض عبر مشاريع وممرات وقرارات مالية، ومصالح قوى كبرى تتجاوز المسارات العسكرية إلى منطق المسارات الاقتصادية، بمعنى التركيز على الجغرافيا الربحية وليس على «الجغرافيا الدموية» إذا جاز لنا التعبير. وهو ما يفعله ترامب. بمعنى أن ترامب يبني على التحولات التراكمية لأحداث مفصلية خلال العقدين الماضيين (خصوصاً ما بعد طوفان الأقصى). مع عدم تجاهل قاعدة الرمال المتحركة.

لكن ما يجري عملياً هو تشابك الجغرافيا الدموية مع الجغرافيا الاقتصادية/الربحية، لتكون النتائج كارثية على جميع دول المنطقة وشعوبها.

ترامب ومسؤولو إدارته يعملون على قلب مسار الجغرافيا بمفهومه العسكري. لقد أثبتت حروب أميركا (المباشرة) من فيتنام وحتى العراق، أنها مكلفة من غير طائل، ومستدامة بصورة غير استراتيجية، وقادت في تطورات ليست في مصلحة المصالح الأميركية، والدليل ما شهدته المنطقة خلال العقدين الماضيين من تآكل للنفوذ الأميركي مقابل صعود ألد الخصوم، روسيا والصين، بمسارات اقتصادية استطاعت استقطاب دول المنطقة، بمن فيها الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة الأميركية.

في الشرق الأوسط يحتم الصراع على كل ما هو قائم على الجغرافيا التي هي منبع الطاقة وخطوطها وممراتها.. لكن مفهوم السيطرة انتقل من جغرافي مباشر إلى اقتصادي مباشر  

خلال السنوات القليلة الماضية، ما بعد 2015 تحديداً، شهدت المنطقة كثافة مشاريع عملاقة، مثل «طريق الهند– الشرق الأوسط– أوروبا»، ومبادرة «الحزام والطريق» الصينية، ومحور الربط التجاري بين الخليج وتركيا وأوروبا عبر العراق والأردن، وخط «شمال – جنوب»، والربط السككي بين إيران والعراق وسورية… الخ.

هذه المشاريع لم يعد المحللون يقرؤونها كبنى تحتية أو لوجستية، أو من باب تعزيز العلاقات والشراكات والاستراتيجيات.. والأمر نفسه بالنسبة للمعارك التي تدور، المباشرة وغير المباشرة. اليوم تتم قراءة هذه المشاريع (والتعامل معها أميركياً) بمنزلة عقود تأسيس لشرق أوسط اقتصادي جديد، حيث إن المعارك واحتدام الصراع على المنطقة بات يشمل كل ما هو قائم على الجغرافيا.. الجغرافيا التي هي منبع الطاقة وخطوطها وممراتها.

Leave a Comment
آخر الأخبار