انتهاك الواقع.. من هيمنة الخوارزميات إلى أزمة الحقيقة في العصر الرقمي

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – حسين الإبراهيم:

  • ماذا يعني انتهاك الواقع في عصر الوسائط الرقمية؟
  • ماهي خطورة النظر إلى انتهاك التوقعات كمجرد ظاهرة بسيطة في التفاعل؟
  • هل نعيش اليوم داخل فقاعات مصطنعة تحجب الحقيقة الموضوعية؟
  • أين يكمن دور الصحافة والوعي النقدي في مواجهة هذه الثورة الرقمية؟

لم تعد الوسائط الرقمية مجرد أدوات للتواصل أو تبادل الرسائل، بل تحولت إلى بيئة موازية تعيد تشكيل إدراك الإنسان للعالم. ولم تعد الخوارزميات مجرد أدوات تنظيمية، بل أصبحت مهندسة وعي خفي يعيد ترتيب الأولويات، عبر تضخيم بعض الصور والأخبار وإخفاء أخرى، وهنا تولد سردية بديلة أكثر إقناعًا من الحقيقة نفسها. هذا الواقع الجديد لا يكتفي بكسر توقعات المستخدمين، بل يفرض عليهم إدراكًا مختلفًا للعالم، حيث يصبح التحدي الأكبر ليس مواجهة الأخبار الزائفة فقط، بل مواجهة بيئة كاملة تعيد تعريف مفهوم الحقيقة.

مفهوم “انتهاك الواقع” وتوسيع “انتهاك التوقع”

نظرية انتهاك التوقع، التي ظهرت في السبعينيات على يد الباحثة “جودي بورغون”، فسرت طريقة تفاعل الأفراد عندما تُكسر توقعاتهم في سياق التواصل، خصوصًا في المجال غير اللفظي. لكن مع تطور البيئة الرقمية، لم يعد الأمر مقتصرًا على مفاجأة المستخدم بمحتوى غير متوقع، بل أصبح يشمل إعادة بناء الواقع نفسه.

لا تنقل الخوارزميات الواقع كما هو، بل تعيد صياغته عبر ثلاث آليات رئيسية: هي التكرار الذي يحول المفاهيم إلى حقائق مقبولة. والتضخيم الذي يعطي بعض الأحداث حجمًا أكبر من حقيقتها. والإخفاء الذي يهمش قضايا أخرى لتبدو وكأنها غير موجودة.

"انتهاك الواقع" امتداد أكثر خطورة من مجرد انتهاك التوقع، لأنه يعيد تشكيل إدراك الفرد للعالم وقيمه ومعاييره، ويخلق بيئة معرفية جديدة منفصلة عن الواقع الموضوعي.

أمثلة من منصات التواصل

فقاعات فيسبوك وتويتر: تعتمد هذه المنصات على خوارزميات توصية تراقب سلوك المستخدم وتغذي حسابه بمحتوى مشابه لما سبق أن تفاعل معه. النتيجة تكوين “فقاعة المحتوى”، حيث يتعرض المستخدم بشكل متكرر لوجهات نظر متوافقة مع قناعاته السابقة.

تيك توك وصناعة الترندات: يمثل تيك توك نموذجًا أوضح لانتهاك الواقع؛ فخوارزمياته لا تكتفي بعرض المحتوى المتوافق مع اهتمامات المستخدم، بل تصنع ترندات تُفرض على ملايين المستخدمين في وقت واحد. وتكشف الأرقام أن عدد مستخدمي تيك توك تجاوز مليار مستخدم نشط شهريًا، يقضون في المتوسط 95 دقيقة يوميًا على المنصة.

آليات انتهاك الواقع

يعدّ التضخيم المفرط للأخبار والصور من أهم آليات انتهاك الواقع لاسيما عند رفع بعض الأخبار أو الصور إلى واجهة الاهتمام الجماعي عبر إعادة نشرها وتكرارها. وتأتي صناعة الترندات وتوجيه النقاش العام في المرتبة الثانية فهي ليست انعكاساً طبيعيًا لتفاعل المستخدمين، بل تُصنع وتُدار عبر خوارزميات تضخم موضوعًا معينًا وتفرضه على ملايين المستخدمين. ومن ثم تقنية التزييف العميق التي تتيح إنتاج صور وفيديوهات تبدو حقيقية لكنها مزيفة. ويؤدي التكرار المستمر لمحتوى معين إلى ترسيخ قيم ومعايير جديدة في الوعي الجمعي، تتحول مع الوقت إلى “معايير طبيعية” يتبناها المجتمع.

هذه الآليات تجعل انتهاك الواقع عملية منهجية تُدار عبر التكنولوجيا والخوارزميات، لا مجرد مصادفة أو انحراف فردي.

الأثر المجتمعي

تتجاوز الآثار مجرد التفاعل الرقمي لتصل إلى جوهر العلاقة بين المواطن والحقيقة. أولها  فقدان الثقة في الوسائل الإعلامية والمصادر التقليدية، إذ بات الجمهور يرى أن الأخبار يمكن أن تُصنع وتُضخم أو تُخفى وفق مصالح خوارزمية أو سياسية. يرافق ذلك انتشار ثقافة “ما بعد الحقيقة”، حيث لم يعد معيار الصدق هو ما يحدد قوة الخطاب، بل القدرة على التأثير العاطفي والتكرار.

هذا التحول يهدد التماسك الاجتماعي ويضعف أسس الديمقراطية القائمة على النقاش العقلاني والشفافية. ويؤدي إلى زيادة تقبل المعلومات الزائفة. النتيجة أن القرارات السياسية والاجتماعية باتت معرضة لخطر التضليل الجماعي.

التمييز بين الحقيقة والوهم

من خلال تجربتي الصحفية تبين لي أن الخوارزميات تدفع الصحفي نحو محتوى محدد يعيد تدوير الصور نفسها ويضخم روايات معينة بينما يهمش روايات أخرى. هذا التكرار يخلق بيئة معرفية مغلقة تجعل إدراك الإنسان للواقع انعكاساً لما تختاره له الخوارزميات.

تؤكد تحليلات كبار المفكرين خطورة هذه الظاهرة: حيث أشار هارولد إنيس إلى أن الإعلام يعيد تشكيل الزمن والسلطة عبر ما يضخمه أو يخفيه، وحذر ناعوم تشومسكي من “صناعة القبول” التي تبني موافقة الجماهير على واقع مصطنع، وأكد كارل بوبر أن المجتمع الحر لا يمكن أن يستمر إذا فقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم.

مداخل جديدة للمواجهة

تتطلب مواجهة الظاهرة مداخل جديدة تتجاوز الحلول التقليدية بدءاً بتعزيز الوعي النقدي والتعليم الإعلامي الرقمي وتطوير أدوات علمية وتقنية لتحليل آليات صناعة الواقع الرقمي مروراً بتعزيز دور الصحافة الاستقصائية والفكر النقدي كخط دفاع أول لكشف التلاعب بالمعلومات وانتهاء بإصدار تشريعات واضحة لضبط عمل الخوارزميات وفرض الشفافية

في الوقت الذي يعيد فيه الواقع الرقمي تشكيل عالمنا، يبقى سؤال الحقيقة هو الحصن الأخير الذي يجب ألا نسمح بانتهاكه.
Leave a Comment
آخر الأخبار