الحرية ـــ أمين الدريوسي:
في الشرق الأوسط، حيث التاريخ يكتب فصوله بمداد النار والدم، تتشابك خيوط صراع معقد بين دولتين ، إسرائيل وإيران، يمتد عبر عقود من الزمن، من الهجمات السرية، والعمليات الاستخباراتية الخفية، إلى التهديدات المتبادلة والمواجهات المباشرة، هذا الصراع رسم مساراً متعرجاً، ترك بصماته على المنطقة والعالم، وفي هذا المقال سنسلط الضوء على تاريخ هذا الصراع، مستكشفين جذوره، وتطوراته، والعوامل التي شكلته، والسيناريوهات التي قد تحدد مستقبله.
من التعاون إلى التنافس
لم يكن التعاون بين إسرائيل وإيران أمراً مستبعداً في يوم من الأيام، ففي عهد الشاه محمد رضا بهلوي، شهدت العلاقات بين إيران وإسرائيل تقارباً نسبياً، مدفوعاً بالمصالح المشتركة، مثل مواجهة النفوذ السوفييتي، والتعاون في مجالات التجارة والأمن، ولكن، مع قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، وتولي آية الله الخميني السلطة، تبدلت الأمور بشكل جذري، إذ قطع الخميني العلاقات مع إسرائيل واصفاً إياها بالكيان الغاصب، واعتبرت الثورة الإسلامية أن إسرائيل هي عدو، وأعلنت دعمها القضية الفلسطينية، فقطعت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وافتتحت سفارة فلسطينية في طهران عام ١٩٧٩، ومنذ ذلك الحين أصبح العداء لإسرائيل جزءاً من الخطاب السياسي والديني الرسمي لإيران وبدأ عهد العداء المعلن، فانضمت إيران إلى معسكر الدول التي تعارض إسرائيل، بينما تحالفت إسرائيل مع دول أخرى في المنطقة.
حرب الظل
حرب الظل أو ما يعرف بحرب الخفاء بين إسرائيل وإيران تُعد واحدة من أكثر الصراعات تعقيداً وغموضاً في الشرق الأوسط، حيث تدور في الظل بعيداً عن الحروب التقليدية، لكنها لا تقل خطورة أو تأثيراً عن الحرب المعلنة أو المواجهة المباشرة، حيث بدأت سلسلة من العمليات الخفية غير المعلنة رسمياً بين العدوين اللدودين، وقد شملت هجمات سيبرانية، اغتيالات، ضربات جوية محدودة، وتخريب منشآت حساسة، غالباً ما تُنسب إلى أحد الطرفين من دون إعلان رسمي من أي طرف، ولكن الهدف منها هو إضعاف الآخر من دون الانزلاق إلى حرب شاملة، وشملت هذه المواجهه الخفية الضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا، حيث شرعت إسرائيل منذ سنوات بتنفيذ غارات منتظمة على مواقع إيرانية أو تابعة لحزب الله داخل سوريا، بهدف منع ترسيخ وجود عسكري إيراني قرب حدودها، كذلك طالت الاغتيالات والتخريب داخل إيران فكان من أبرزها اغتيال العلماء النووين، كما نفذت إسرائيل عمليات استخباراتية سرية ضد أهداف إيرانية، بما في ذلك المنشآت النووية مثل مفاعل نطنز.
أيضاً كان للهجمات السيبرانية دور كبير في الحرب الخفية بين الطرفين حيث كان يبدو أن كلاً منهما منخرط في حرب إلكترونية شرسة، وكان أشهرها فيروس «ستاكس نت» الذي عطل أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، ويُعتقد أن إسرائيل والولايات المتحدة طوّرتاه، وغالباً ما كان يأتي الرد الإيراني عبر وكلاء لها أو حلفائها مثل حزب الله أو مجموعات مسلحة تطلق على نفسها المقاومة في العراق وسوريا، من خلال إطلاق صواريخ أو طائرات مسيّرة على أهداف إسرائيلية أو مصالح غربية.
البرنامج النووي الإيراني
شكل البرنامج النووي الإيراني نقطة تحول في الصراع، وهنا بدأت المخاوف الإسرائيلية حيث اعتبرت أن هذا البرنامج يشكل تهديداً وجودياً لها، رغم تأكيد طهران الدائم والمستمر على أن هذا البرنامج لم يكن لأغراض عسكرية وإنما هو برنامج سلمي هدفه إنتاج الطاقة الكهربائية، وتطوير الأبحاث العلمية، إلا أن الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، كانت تخشى من أن إيران تسعى إلى تطوير أسلحة نووية سراً، ما يشكل تهديداً للأمن الإقليمي والعالمي، فسعت واشنطن والغرب لفرض عقوبات دولية على إيران، بهدف إجبارها على التخلي عن برنامجها النووي.
فيما كانت إسرائيل تعتبر أن البرنامج النووي الإيراني أكبر تهديد وجودي لها، فقامت بتبني موقف متشدد، مؤكدة فيه أنها لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، ولجأت إلى المواجهة المباشرة.
التصعيد المتزايد والمواجهة المباشرة
في العقد الماضي شهد تصعيداً ملحوظاً في التوتر بين الطرفين، حيث تم تبادل التهديدات العلنية، ملوحين «الطرفين» بإمكانية شن هجمات عسكرية، فقامت إسرائيل باستهداف نقاط عسكرية إيرانية في سوريا، ولبنان، والعراق، بينما ردت إيران بتنفيذ هجمات بطائرات مسيرة على أهداف إسرائيلية.
في صباح الجمعة الماضي، استيقظ العالم على أنباء ضربة استباقية إسرائيلية استهدفت مواقع نووية وعسكرية داخل العمق الإيراني، في عملية غير مسبوقة وُصفت بأنها الأقوى منذ سنوات، فجاء الرد الإيراني عبر مئات الطائرات المسيّرة ثم الصواريخ، وسط ترقب عالمي وقلق من انفجار الأوضاع، وتساؤل: هل تحولت حرب الظل إلى حرب مفتوحة؟
حتى الآن، لا إعلان رسمياً بالحرب، لكن التصعيد بلغ مستوىً خطيراً وغير مسبوق.
مستقبل هذا الصراع والسيناريوهات المحتملة
يبقى الصراع بين إيران وإسرائيل مفتوحاً على عدة سيناريوهات، تتراوح بين التصعيد الشامل والتهدئة المؤقتة، وكل منها يحمل تداعيات إقليمية ودولية كبيرة، ورغم إن هذه الضربات لم تتحول حتى الآن إلى حرب شاملة مباشرة، إلا أن حدتها وأبعادها المتعددة تجعلها من أكثر النزاعات تعقيداً وخطورة في المنطقة، ومن غير المرجح أن تهدأ هذه التوترات في المستقبل القريب ما دامت المصالح الاستراتيجية والعقائدية للجانبين تتصادم بهذا الشكل المباشر.
ومع استمرار هذا التصعيد في نطاق محدود، مع تبادل الضربات المحدودة، والعمليات الاستخباراتية السرية، فقد يتحول إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، تشمل دولاً أخرى في المنطقة، يُعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحاً على المدى القصير، حيث يستمر الطرفان في تبادل الضربات الجوية والهجمات السيبرانية، وأي خطأ في التقدير مثل «استهداف شخصية رفيعة أو منشأة استراتيجية» قد يشعل حرباً شاملة تمتد إلى لبنان وسوريا والعراق وغيرها من دول المنطقة، وفي حال توسعت المواجهة لتشمل وكلاء إيران مثل حزب الله والحوثيين، فقد تُفتح عدة جبهات ضد إسرائيل، وهذا السيناريو قد يؤدي إلى دمار واسع، ويدفع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا للتدخل، مع تأثيرات كارثية على أسواق الطاقة والاستقرار الإقليمي.
وفي هذا الحال لا بديل عن حل دبوماسي أمني سياسي أو اتفاق الضرورة إذا صح التعبير لتجنب الكارثة، ولكن رغم صعوبة تحقيقه، إلا أن التوصل إلى اتفاق غير مباشر قد يكون ممكناً إذا شعرت الأطراف أن التصعيد سيؤدي إلى تكلفة كارثية لا طاقة للطرفين في تحملها.