الحرية – إلهام عثمان:
في مجتمعٍ يعلي من قيمة بر الوالدين، ويُقدّس صلة الرحم، قد تبدو صور العقوق واضحةً وجليةً في أشكال متعددة منها رفع الصوت أو الإهانة، أو التجاهل المتعمد، أو حتى القطيعة التامة. لكن، هل فكرنا يوماً في العقوق الذي ينسج خيوطه بصمتٍ قاتل، ويخفي ألمه خلف جدرانٍ من عدم التواصل؟ إنه “العقوق الصامت”، ظاهرةٌ باتت تُلقي بظلالها القاتمة على علاقاتٍ كانت يوماً ما تشع بالدفء والمحبة.
ما هو العقوق الصامت
تصف اختصاصية علم النفس الاجتماعي مريم المصطفى من خلال حوار مع “صحيفتنا الحرية”، بأن العقوق الصامت هو ذلك التجاهل الممنهج، واللامبالاة المُتعمّدة، وعدم الاهتمام بالاحتياجات العاطفية أو الجسدية للوالدين أو الأقارب، وغياب الحوار، وفقدان التواصل، والانسحاب التدريجي من حياة من لهم حقٌ علينا، والذي قد يتجلى في عدم الرد على المكالمات الهاتفية، أو تأجيل الزيارات بشكلٍ مستمر، أو عدم مشاركة تفاصيل الحياة اليومية، أو حتى عدم إظهار أي اهتمام بما يمرون به من أحداثٍ أو مشاعر، مضيفة: بأنه أشبه بجرحٍ لا يُرى، لكنه ينزف ألماً عميقاً في روح من يعاني منه.
أخطر أشكال العقوق
وتشير المصطفى إلى أن هذا العقوق هو غاية في الخطورة، لأنه غالباً ما يكون مُبطّناً وغير مباشر، ما يجعل من الصعب مواجهته أو معالجته، وتبين المصطفى في العقوق الظاهر، هناك مواجهة، وفرصة للحل أو على الأقل للتعبير عن الغضب والألم، بينما العقوق الصامت يُبقي الضحية في حالة من التساؤل المستمر، والشعور بالرفض وعدم القيمة، حيث يفقد الشخص الثقة في علاقاته، ويولد لديه شعوراً بالعزلة والوحدة، حتى لو كان محاطاً بالآخرين.
وتضيف المصطفى: غالباً ما ينبع العقوق الصامت من أسبابٍ معقدة، والتي قد تكون مرتبطة بالضغوط الحياتية، أو صعوبة التعبير عن المشاعر، أو حتى الخوف من المواجهة، فقد يعتقد البعض أنهم بذلك يُحافظون على علاقةٍ سطحية دون الدخول في تفاصيل قد تسبب لهم إزعاجاً، لكنهم في الحقيقة يلحقون ضرراً بالغاً بمن يفترض أن يكونوا أقرب الناس إليهم.
ما نسيته أنت..!
بالإضافة إلى العقوق الصامت، هناك صورٌ أخرى للعقوق قد لا تكون بالوضوح نفسه، لكنها لا تقلّ ضرراً، هذا ما تبينه المصطفى كالعقوق بالتقصير في الواجبات فقد لا يكون هناك سبٌّ أو شتم، لكن هناك تقصيرٌ واضحٌ في تلبية احتياجات الوالدين الأساسية، سواء كانت مادية أو معنوية، وإهمال رعايتهم عند المرض، أو عدم توفير سبل الراحة لهم، أو حتى عدم الاهتمام بشؤونهم المالية بشكلٍ لائق.
ومن أشكاله أيضاً استغلال الوالدين مادياً أو عاطفياً، أو استغلال طيبتهم وحسن ظنهم لتحقيق مصالح شخصية، كما تضيف المصطفى بأن هناك أيضاً العقوق بالدعاء عليهم أو تمني السوء لهم، حتى لو لم يعبر عنه باللسان، حيث يولد الشعور الداخلي بالضيق الشديد والدعاء عليهم في الخفاء شكلاً من أشكال العقوق.
أيضاً النميمة عليهم أو نشر أسرارهم والتحدث عن الوالدين بسوءٍ أمام الآخرين، أو كشف أسرارهم الخاصة، والتي تعدّ خيانةً لثقتهم وإساءةً كبيرةً لهم، أضف لذلك الانشغال الدائم عنهم و الانغماس في الحياة الشخصية والمهنية لدرجةٍ تُصبح فيها زيارة الوالدين أو الاطمئنان عليهم عبئاً ثقيلاً، أو أمراً مؤجلاً دائماً، كما أضافت أن من أشكاله التدخل في شؤونهم الخاصة بشكلٍ سلبي و محاولة فرض الآراء أو القرارات على الوالدين، أو انتقاد اختياراتهم بشكلٍ مستمر، ما يُشعرهم بعدم الاحترام.
دور وسائل التواصل
وهنا تؤكد المصطفى على دور وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبيرٍ في تفاقم العقوق الصامت، حيث تُتيح سهولة الانسحاب من التواصل المباشر، واستبداله بتفاعلاتٍ سطحيةٍ أو غيابٍ شبه تام، فتصبح “المشاهدة” دون تعليقٍ أو اهتمام، أو الردود المختصرة، أو حتى تجاهل الرسائل المهمة، شكلاً أشد خطراً بوجه جديد للعقوق الصامت.
لم يعد مؤلماً
وهنا توضح المصطفى أن العقوق الصامت يشكل تحدياً كبيراً، لأنه يُبقي الضحية في حالةٍ من عدم اليقين، إذ لا يوجد سبب واضح يمكن معالجته، ولا يوجد خطأ محدد يمكن تصحيحه، و هذا الغموض يولد بدوره شعوراً بالضياع والإحباط، كما أن عدم التواصل يُفقد الوالدين أو الأقارب الشعور بالانتماء والأهمية، ويشعرهم بأنهم أصبحوا عبئاً أو مجرد أشخاص عابرين في حياة أبنائهم أو أقاربهم.
الحلول والمخارج
إن مواجهة العقوق الصامت تتطلب شجاعةً ووعياً لا يستهان بهما، هذا ما تبينه المصطفى فمن الضروري مثلاً محاولة فتح قنوات حوارٍ بناءة مع الأطراف المعنية للتعبير عن المشاعر والاحتياجات بوضوحٍ وهدوء.
كما يجب العمل على محاولة فهم الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك، سواء كانت ضغوطاً شخصية أو صعوباتٍ في التعبير، وهنا تضيف المصطفى:إنه في بعض الحالات، قد يكون من الضروري اللجوء إلى استشاري أسري أو اختصاصي نفسي للمساعدة في تجاوز هذه المشكلات، من خلال تعلم كيفية وضع حدودٍ صحية في العلاقات، مع الحفاظ على الاحترام والتقدير، مع محاولة التركيز على الجوانب الإيجابية في العلاقة، والاحتفاء باللحظات الجميلة.
كما يُمكن الحد من العقوق والانشغال بشبكات التواصل، عبر وضع حدود واعية لاستخدام هذه الوسائل، مع التركيز على التواصل الهادف والمباشر كلما أمكن، وتخصيص وقتٍ محددٍ للتواصل مع الوالدين.
وتختم المصطفى بقوله تعالى: “ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً”، مبينه أن بر الوالدين وصلة الرحم ليست مجرد واجباتٍ تؤدى، بل هي استثمارٌ في السعادة والسكينة النفسية، وأن العقوق الصامت، بكل أشكاله الخفية والظاهرة، يهدد هذه الاستثمارات، ويلقي بظلالٍ من الألم على أرواحٍ تستحق منا كل الحب والتقدير، متمنية وخاصة من الشباب اليافعين أن يحاولوا الإحساس بمن كانوا لهم سنداً ومدداً، واستعادة الدفء إلى علاقاتنا، قبل أن تصبح الظلال قاتمةً إلى الأبد بفقدان أحد والدينا أو كليهما.. وعندها لن ينفع الندم