الفنان والإعلامي د. عبد القادر المنلا.. دعوة لتعميق الوعي الثقافي ونداء للمغتربين: لا تنتظروا حتى تستقيم أحوال البلاد تعالوا أنتم وأصلحوها!

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية – القسم الثقافي:
في عمق ذاكرته، يتماوج الحزن والأمل، الذكريات الممتدة بين دمشق وأصالتها، ودموعُ فراقها بعدما استحال البقاء.
عبد القادر المنلا عاشق دمشق العتيقة، الفنان والإعلامي، أحد المواطنين السوريين المحزونين ممن لم يتوقعوا يوماً أن يضطروا لمغادرة بلادهم، حتى لو أكرهوا على الرحيل قسراً إلى المنفى والعيش لسنوات قاسية فيه.

لو عرفت أني سأُحرم من الشام، لما غادرتها يوماً، ولو سمح لي بزيارتها لما خشيت الموت بعدها

رحلة المنلا إلى مصر، بلد حبّه وذكريات دراسته، ما خففت من وطأة شعوره بالغربة، أما الوصول إلى أوروبا بخطوات مثقلة، لم يتمخض إلا عن ذكرى منتهكة وقهر يعتصر القلب، فالحضارة العصرية ما حملت سوى احتراق داخلي، وتأكيد أن العودة إلى سوريا حلم مؤجل، أو ربما مستحيل.
أيامه الممتدة بين الشجاعة والخذلان، بين رغبة العودة ومرارة الفقدان تركت في قرارة نفسه، سؤالين لاحقين كظله: “لو عرفت أني سأحرم من الشام، هل كنتُ لأغادرها يوماً؟ ولو أتيحت لي العودة لأتنقل بين دروب دمشق وأزقتها، لأعيش في تفاصيلها وتقاليدها، فهل يهمني الموت بعدها؟”

تداخلُ الفن مع التجارة: باتت شهرة الفنان تغطي على جودة العمل

عبد القادر المنلا، الذي خبر القمع، والفن، والمنفى، الأغنية الذكية، والمسرح المحاصر، يعود اليوم ليقف مجدداً أمام أسئلة الوطن، لكن من موقع مختلف.. فماذا يرى؟ وماذا يتمنى؟ وماذا تبقّى من ذلك الحلم الكبير؟

اشتباك معرفي وثقافي
تُعد البعثة التي حصل المنلا عليها لنيل درجة الدكتوراه في فن الإخراج المسرحي في مصر، بعد تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عام 1994، خطوة مهمة لتعزيز معرفته الأكاديمية والعملية خاصة في ظلّ الاشتباك الفني والدرامي بين الدراسة الأكاديمية في دمشق ومثيلتها في مصر، حيث تمتلك كل مدرسة سماتها الخاصة.
أما عن أكثرهما فعالية في الدراسة وأيهما أكثر استمرارية في العمل الفني فيوضح ضيف “الحرية” بالقول:
“لا يمكن مقارنة المعهد العالي بدمشق بأكاديمية الفنون المصرية، فلكل مؤسسة مدارسها المختلفة.

الجهات المُعارِضة لم تدعم الإنتاج الفني، في حين كثف النظام البائد جهوده لدعم الدراما والسينما والمسرح لخدمة مصالحه

إذ يعتمد المعهد في دمشق على المدرسة الروسية، مع إدراج بعض المناهج الأخرى مثل منهج بريخت الألماني الذي أدخله د.نبيل الحفار.
وعلى الرغم من أن معهد دمشق ضم أسماء مهمة مثل نائلة الأطرش ووليد القوتلي وفواز الساجر، إلا أن أكاديمية الفنون في مصر تتميز بتنوع أكاديمي ودراسي واسع، حيث تشمل المدرسة الإيطالية والأمريكية والإسبانية ومدارس أخرى من أوروبا والعالم. إضافة إلى ذلك، تحافظ أكاديمية الفنون في مصر على تراتبية أكاديمية في التدريس والعمادة، حيث تُعطى الأولوية للخبرة والدرجة الأكاديمية.

يُنظر إلى الفنان على أنه صادق وإنساني، وهو تصور ليس دقيقاً على الدوام

وعلى مستوى الأداء، يتم التركيز في مصر على تدريب الممثل من خلال معايشة الدور، بحيث يختبر الشارع المصري ويعبّر عنه بحيوية وواقعية. أما في سوريا، فيميل الممثل إلى التركيز على الجوانب التقنية وتفاصيل الشخصية، وتحضير الدور بشكل دقيق. في الآونة الأخيرة، أصبح الأمر يختلط بين الفن والتجارة، حيث يعتمد الانتشار بشكل أكبر على الاسم التجاري، حتى أمست الشهرة تغطي على جودة العمل.
الموسيقا بين مصر وهولندا
على الرغم من كونه شاعراً وعازف عود، يؤكد عبد القادر المنلا أن الشعر لم يكن يوماً مشروعه الأساسي.
فقد جاءت تجربته الموسيقية في الكتابة والتلحين لدعم الثورة السورية، وذلك من خلال فرقة “مر الكلام” التي أسسها في مصر، بهدف لفت الأنظار إلى روح الثورة الحقيقية، التي نافستها العسكرتارية والأيديولوجيات الدينية.

بعد إعلان الرئيس الشرع عن “معركتنا ضد الجوع”، أرى أن المعركة الحقيقية هي “معركة الوعي”

يُضيف المنلا في حديثه لـ “الحرية”: “في مصر، كنت أطمح للتعاون مع موسيقيين ومختصين بالشأن السوري، لكن لم ألتقِ بأي منهم، فاضطررت إلى تبني مهام الملحن والمؤدي، وانطلقت من أغنية للشيخ إمام يقول فيها (مر الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمر، أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضر)، أردتُ قول الحقيقة، مهما كانت لاذعة، ولم أتردد في تأكيد بأن مشروعي الموسيقي سينتهي بسقوط نظام الأسد”.

ومع أن المنلا طوّر مشروعه الثوري الفني، ووقف على عدة مسارح مع ابنتيه العازفتين شذى وجوى، وعدد من الموسيقيين المصريين، لكنه لم يحصل على الدعم، من أي جهة مُعارِضة قادرة على إنتاج الأفلام والمسلسلات والأغاني، في حين كان نظام الأسد يكثف جهوده لدعم الدراما والسينما والمسرح لخدمة مصالحه.

تعميق الوعي الثقافي: دعوة لوزارة الثقافة لتعزيز دورها في إحياء وعي المواطنين

في هولندا دعا المنلا إلى إحياء ما سماها (الأغنية الذكية)، وهي القادرة وِفق تعريفه على إثارة التساؤلات والدهشة، بعيداً عن الأنماط التقليدية والمكرورة، ومنها مثلاً ما قدمه سيد درويش وأحمد فؤاد نجم مع الشيخ إمام.
وبينما كان يبذل ما بوسعه في المنفى لاحظ المنلا التناقض الصارخ الذي أبداه بعض الفنانين السوريين الذين لعبوا دوراً رئيسياً في نشر رواية النظام وتأكيدها كحقيقة وحيدة، ما غير قناعات بعض المتابعين العرب، خاصة حين “يُنظر للفنان على أنه صادق وإنساني، وهذا تصور ليس دقيقاً على الدوام”.
ويركز المنلا على التأثير الذي تركه الفنانين النجوم، خاصة من حاول منهم تشويه صورة المعارضين، وراحوا يروّجون لانتصار النظام الأخلاقي بعد انتصاره العسكري، ما جعلهم يظهرون المعارضة كأنها مُدانة، دافعين الثورة إلى دهاليز لم نكن تتمنّاها.

أنا ضد ثقافة الانتقام، وأؤمن بتعزيز روح التوافق، لأن سوريا هي المنتصر الحقيقي

معركة الوعي والصحوة الفنية
منذ 2011 ما انفكّ الإعلامي عبد القادر المنلا يكتب مقالات نقدية حول الوضع السوري، مركزاً على الشأن السياسي بالدرجة الأولى، بعدما فقد إحساسه بقيمة الأشياء.
لكنه اليوم، وبعد عودته إلى سوريا وإعلان الرئيس أحمد الشرع عن “معركتنا ضد الجوع”، يؤكد أن المعركة الحقيقية يجب أن تكون “معركة وعي” . يقول : “مشكلتنا ليست اقتصادية واجتماعية فحسب، بل تتعلق بالتفرقة والكراهية وسوء الفهم والاقتتال المستمر، وجميعها ناتجة عن غياب الوعي. ومن واجبنا أن نوضح أهمية عدم احتكار الحقيقة من أي فريق أو طائفة، فخطؤنا واحد، لكن الحقيقة متعددة الأوجه.
وقد عمل آل الأسد على تجريف حالة الوعي العام، إذ جعل المثقفين يعملون لصالح أفكارهم الأيديولوجية ومنظومتهم الأمنية، وفي الجانب الآخر كان هناك متاجرة بأسماء بعض المثقفين والترويج لفكرة أنهم الراعي للفن وللفنانين”.

الحل كامن بنشر مفهوم المواطنة والانتماء للبلد بدل الانتماء للطائفة

وهنا، يأتي دور الفنانين والكلام للمنلا، في خوض معركتهم من أجل تعميق الوعي من خلال جبهة الفن والمسرح والسينما، داعياً وزارة الثقافة لأن تلعب دورها بشكل أكبر في إعادة تفعيل وعي المواطنين.
محذراً من أن استمرار الوضع الاقتصادي وضعف الوعي قد يعيدنا إلى الانتكاسات، خاصة مع مخاطر الطائفية المستترة التي تظهر بين الحين والآخر، مؤكداً أن الحل الحقيقي يكمن في نشر مفهوم المواطنة والانتماء الحقيقي لسوريا، وليس للطائفة، وأن تعزيز الوحدة الوطنية هو السبيل لبناء مستقبل أكثر استقراراً وتماسكاً.
ويتم ذلك وفق اقتراحه عبر عقد الملتقيات والمنتديات والعروض المسرحية، كوسائل لنشر مفهوم المواطنة بعيداً عن أمراض الكراهية تجاه الآخر.
وعن أهمية المعهد العالي للفنون المسرحية فيؤكد المدرس الأسبق فيه، أنّ المعهد أداة أساسية بيد وزارة الثقافة، وهي القادرة على تخليصه من الفساد والمحسوبية التي سمحت بتخريج طلاب غير مؤهلين، فقط لقرابتهم من نافذين، واستغلال المعهد كجسر نحو الدراما التلفزيونية.

أنتقد الذهنية الدفاعية عن رواية النظام وأدعو للعمل من أجل لم الشمل بدلاً من الشحن والتصعيد

ويلفت أن التوريث السياسي هو أحد أسباب الخراب الذي طال سوريا، حيث تفشى الفساد من أعلى السلطة إلى أسفلها، ما دفع الناس للبحث عن الخلاص الفردي، وعزز منطق الشللية والانتهازية، وحرم الآخر من حقه، كما عمّق الكراهية بين الموالين المنتفعين والمنتقدين المهددين بالاعتقال، الأمر الذي أدى إلى الثورة.
وعن انتقاده لبعض الفنانين، يوضح المنلا: “أنتقد الذهنية التي يتبنوها، تحديداً أولئك الذين يدافعون بشراسة عن رواية النظام ضد جميع الروايات الأخرى. مع التفهم الكامل لظروف من بقوا تحت قبضة السلطة الأمنية، وعلينا السعي للم الشمل بدلاً من الشحن والتصعيد.
أنا ضد ثقافة الانتقام، وأؤمن بتعزيز روح التوافق، لأن سوريا هي المنتصر الحقيقي”.
وفي الختام دعا الفنان والإعلامي عبد القادر المنلا زملاءه الفنانين للعودة والمساهمة بدورهم، حتى لا يتركوا الساحة لغير المؤهلين أو ذوي التوجهات غير الوطنية بذريعة “الأسلمة” والتعصب الفكري.
وانتهى بالقول: “لا تنتظروا حتى تستقيم أحوال البلاد، بل تعالوا أنتم وأصلحوها!”

 

Leave a Comment
آخر الأخبار
"صحة اللاذقية" استجابة فورية لدعم الأهالي في مواقع الحرائق إعادة الممنوحين "إجازات مأجورة" في مصفاة حمص للعمل قريباً.. وتشغيل المرجل الصربي خلال شهرين ‏«أورورا».. مشروع أمريكي لتهجير الفلسطينيين من غزة تحت غطاء «المساعدات ‏الإنسانية»‏ تباينات صارخة في الميزان التجاري بين سورية والأردن.. خبراء يفسّرون و آخرون يقترحون إجراءات لتصحيح ال... حرائق ريف اللاذقية تتسع.. والدفاع المدني يصف الوضع بالأخطر منذ سنوات "حبوب حمص" تستأنف تسويق القمح ثلاثة أيام إضافية المالية تصدر التعليمات التنفيذية لصرف الزيادة 200% على الرواتب .. الزيادة لا تؤثر على القدم المؤهل ل... إلغاء العمل بالبطاقة الذكية بدأ في طرطوس.. أسطوانة غاز عند الحاجة من دون التقيد بكمية أو مدة زمنية م... الفنان والإعلامي د. عبد القادر المنلا.. دعوة لتعميق الوعي الثقافي ونداء للمغتربين: لا تنتظروا حتى تس... لم تشهد مثلها سوريا منذ ربع قرن.. أكثر من ٧٠ ألف دونم من الغابات طالتها حرائق ريف اللاذقية