الحرية – باسم المحمد:
يتفق الجميع على أن قرار رفع تسعيرة الكهرباء في سوريا هو دواء اقتصادي ضروري، حتى وإن كانت له بعض الأعراض الجانبية المزعجة في مراحله الأولى.
فهذه الخطوة ليست إلا محاولة لتجنّب مرض اقتصادي عضال كان سيصيب قطاع الكهرباء عاجلاً أم آجلاً، في حال استمر الوضع على ما هو عليه.
لقد شغل موضوع إعادة هيكلة الدعم الحكومي في سوريا حيزاً واسعاً من النقاشات والأبحاث خلال العقود الماضية، لكن التردد في اتخاذ قرارات جريئة وعقلانية أوجد تشوهات خطيرة في الاقتصاد الوطني. استفاد من هذه التشوهات قلة من الفاسدين والمحتكرين، تحت شعارات زائفة مثل “سوريا بلد الفقراء والطاقة الرخيصة”، في حين تحمل الشعب والدولة معاً أعباءً ثقيلة نتيجة استمرار السياسات القديمة.
قطاع الكهرباء السوري يمكن وصفه اليوم بأنه قطاع مقلق بكل المقاييس.
فمحطات التوليد تعاني من تهالك واضح وانخفاض كبير في الإنتاجية الاقتصادية والبيئية، وبعضها يشكّل خطراً على العاملين والقاطنين بالقرب منها.
أما شبكات الكهرباء فشبه تالفة، ويضاف فاقدها الفني إلى فاقد محطات التوليد لتتجاوز النسبة الإجمالية 40%، ما يؤدي إلى تضاعف تكاليف الإنتاج والتوزيع مقارنة بما هو معمول به في بقية دول العالم.
يضاف إلى ذلك ثقافة التبذير التي تسود المجتمع، حيث ارتفعت نسب استهلاك الكهرباء في القطاعات غير المنتجة للقيمة المضافة –كالمنازل والمكاتب والمطاعم– لتصبح أعلى بكثير من المعدلات العالمية.
ومع هذه الظاهرة، وجدت شبكات الفساد في دعم الطاقة بيئة خصبة لسرقة المال العام بغطاء قانوني، ما زاد الوضع سوءاً وأخر أي إصلاح حقيقي.
اليوم، اتُّخذ القرار الصعب، وهو بلا شك قرار صادم في ظل الظروف المعيشية الراهنة، لكن على المدى الطويل يبقى خطوة لا مفر منها. فعدم رفع سعر الكهرباء الصناعية بنسبة كبيرة، لا يعني بالضرورة استقرار الأسعار، لأن المنطق يفرض أن يطالب العمال بزيادة أجورهم لتعويض ارتفاع تكاليف المعيشة، وكذلك أصحاب وسائل النقل والورشات والمصالح. وهذه الزيادات ستنعكس تلقائياً على أسعار السلع والخدمات بغض النظر عن تغيّر تعرفة الكهرباء الصناعية، ما يجعل رفع الأسعار بشكل مدروس أكثر واقعية من إبقاء الوضع على حاله.
وهنا يأتي دور الجهات الرقابية في ضبط الأسواق ومنع استغلال القرار ممن يصطادون في الماء العكر، إذ بدأ البعض فعلاً بضخ تحليلات وسيناريوهات متشائمة تهدف إلى تأجيج المخاوف لدى المواطنين.
والواقع أن كثيراً من السلع شهدت ارتفاعات غير مبررة حتى قبل صدور قرار التعرفة الجديدة، ما يدل على أن المشكلة ليست في القرار نفسه بقدر ما هي في ضعف الرقابة والسلوك الجشع لبعض التجار.
من المؤكد أن متخذي القرار لم يقدموا على هذه الخطوة إلا بعد دراسات معمقة حول أثرها الاقتصادي والاجتماعي، ووضعوا حلولاً للتخفيف من نتائجها السلبية.
فالإعلان عن خطة لزيادة الرواتب والأجور، والحديث عن تأسيس شبكات حماية اجتماعية لمحدودي الدخل، إضافة إلى توقيع اتفاقيات استثمارية دولية، كلها مؤشرات على أن هناك رؤية اقتصادية متكاملة تهدف إلى إصلاح حقيقي في بنية الاقتصاد السوري.
وربما تكون هذه الخطوات مجرد بداية لمرحلة جديدة من الإصلاح، تسعى فيها الدولة إلى تصحيح المسار، وتحقيق توازن بين الدعم والمردود، وبين العدالة الاجتماعية والاستدامة الاقتصادية.
القرار مؤلم في ظاهره، لكنه يحمل في جوهره فرصة للشفاء، وفرصة لوضع أسس متينة لمستقبل أكثر استقراراً وكفاءة. باختصار، رغم الصعوبات الحالية، فإن القادم أفضل.
القادم أفضل
Leave a Comment
Leave a Comment