بين الرمز واللون.. القهوة كمشهد يومي في اللوحة

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – ميسون شباني:

ذلك “التفل” الذي يبقى في قعر الفنجان من بقايا القهوة، طالما رأت فيه النسوة وقرأن في خطوطه، في سواده وفي بياضه الكثير من الحظوظ وطاقات الفرج، وبعض الحسد وكذلك الغيرة، كما قرأن فيه أشكالاً لديكة وأفاعي وثعالب وذئاب وغيرها من الكائنات..
وسواء صدقن “قارئات الفنجان” الواتي صار لهنّ اسماً “البصارات”.. فإنّ بعض الفنانين التشكيليين قرؤوا فيه قيماً جمالية من نوعٍ آخر.. فقد شكلت بقايا القهوة ألوناً اشتغل منها الفنانون لوحاتٍ فنية مفعمة بالمضامين البحثية والجمالية والفكرية.. وأصبحت القهوة أو بقاياها في الفنون التشكيلية أكثر من مجرد خامة أو مشروب.. إذ تحولت إلى عنصر فني ينبض بالحياة، ويُعبّر عن الأبعاد الاجتماعية والثقافية والنفسية.

التشكيل بالقهوة

وهذا ما يوضحه الفنان التشكيلي مؤيد كنعان، إذ يقول: “التشكيل بالقهوة هو التدفق اللوني الآثر للمشاعر النبيلة”، حيث تستخدم القهوة كوسيلة فنية لخلق توازن بين الواقع والخيال، ولإنتاج تأثيراتٍ لونية تُحرّك بصيرة المتلقي. حيث تصبح القهوة وسيلةً للتعبير عن الحب، والأمان، والحنين، بينما تُضفي على الأعمال الفنية طابعاً دافئاً وحميمياً.

منذ حديث الزمان

وفي الأزمنة الحديثة، دخلت القهوة إلى فضاء الفن التشكيلي، حيث أصبح فنجان القهوة عنصراً محورياً في لوحات عديدة تروي قصص الحياة اليومية. أو على الأقل المعادل الجمالي لهذه القصص.. ففي أعمال الفنان الفرنسي (إدوار مانيه)، نجد العديد من مشاهد المقاهي الباريسية في القرن التاسع عشر، حيث كانت القهوة جزءاً من المشهد الاجتماعي، ورمزاً للتأمل والحوار. حيث كانت القهوة تُحضر في اللوحات في أجواء تجمع بين الواقعية والحميمية، ما يسهم في تقديم صورة واضحة للحياة الاجتماعية والتفاعل البشري.

ليست مجرد خامة

الفنان التشكيلي علي الشيخ، من الفنانين الذين كان للقهوة لديه أكثر من مجرد مشروب ساخن؛ فقد اشتغل عليها في الكثير من أعماله الفنية، وأضاف لها بعداً أعمق جمالياً ويذكر: “القهوة بالنسبة لي ليست مجرد خامة أعمل بها، بل مادة وجودية تحمل في لونها ورائحتها ذاكرة الإنسان وأثر المكان.” وهنا، يُظهر الشيخ كيف أنّ القهوة في أعماله تتجاوز مجرد كونها عنصراً لونياً لتصبح “كائناً حياً يتنفّس على سطح اللوحة”، ويخلق تأثيراً يتجاوز اللحظات اليومية ليجسد التحولات العميقة التي مرت بها المجتمعات والأفراد.

القهوة كرمز اجتماعي وثقافي

ولطالما أيضاً كانت القهوة جزءاً من الطقوس الاجتماعية، فهي تُشكّلُ رمزاً للتواصل والضيافة في العديد من الثقافات. فالقهوة العربية، مثلاً، تحملُ دلالات ثقافية عميقة، حيث تعكس الكرم والتواصل الاجتماعي في المجالس العربية. وبالعودة للفنان مؤيد كنعان، فهو يرى في القهوة وسيلة لتعزيز هذا النوع من التفاعل بين الفن والمجتمع، فيقول: “القهوة تضفي الشغف على أمكنة دافئة حالمة بمزيد من الحب والأمان”. وهنا، تتحول القهوة إلى وسيط بين الفنان والجمهور، وتروي قصصاً وتوثق لحظات اجتماعية تعكس مشاعر الألفة والاتصال البشري.
أما علي الشيخ فيعتبر أنّ القهوة تحملُ طابعاً ثقافياً خاصاً يعكس جغرافية الإنسان وتاريخ المكان، ويُضيف: “القهوة العربية بخفّتها ولونها الذهبي تُشبه الصحراء في صفائها واتّساعها، و(الإسبريسو) الإيطالية المكثّفة – على سبيل المثال – تشبه فنون النهضة في دقّتها وامتلائها، أما القهوة التركية الغامقة فتحتفظ في قاع الفنجان بأسرار مدنٍ عتيقة لم تكشفها كل الحروب… ومن خلال هذه الكلمات، يُبرز الشيخ كيف أن أنواع القهوة المختلفة تُحاكي الهوية الثقافية للمناطق التي نشأت فيها، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من التراث والمجتمع.

القهوة كخامة تشكيلية مبتكرة

كما لم تقتصر القهوة على كونها مجرد عنصر رمزي أو مشهدي، بل أصبحت مادة تشكيلية حقيقية. فمؤيد كنعان يصفها بأنها “تدفق لوني” يُعبّر عن مشاعر الفنان ويُحرك بصيرة المتلقي. وقد استخدم العديد من الفنانين المعاصرين مثل (ماريا أريستيدو) وهالة شهاب القهوة السائلة كخامة رسم، مستفيدين من تدرجاتها بين البني الفاتح والغامق لخلق لوحاتٍ فنية تميزت بالعمق والثراء. والقهوة، كما يراها كنعان، تحمل في طياتها القدرة على التجاوب مع التجارب الحياتية وتحويل هذه التجارب إلى ألوان مرئية تنبض بالمعنى والذكريات.
ويتحدث علي الشيخ عن استخدامه القهوة كأداة لتوثيق التاريخ والمكان ويقول: “عند رسم القهوة، لا استخدم اللون، بل استدعي الذاكرة والمكان والسياسة والوجدان في آنٍ واحد.” وبالنسبة له، تصبح القهوة بمثابة وسيلة لإعادة تشكيل الذكريات والتجارب، وتحويلها إلى لوحات تحمل أثر الزمن والمكان.

تباين الرؤى والتجارب

والقهوة، على الرغم من تشابهها كعنصرٍ اجتماعي، تحمل دلالات ثقافية مختلفة في الشرق والغرب. في الغرب، كانت القهوة رمزاً للتحرر الفكري، حيث ارتبطت بالمقاهي التي كانت تجمع المثقفين والفنانين، كما في أعمال (إدوار مانيه) التي تجسد المقاهي الباريسية. أما في الشرق، فإن القهوة تُعدّ جزءاً من تقاليد الضيافة، تعبيراً عن الكرم والترحيب في المجالس العائلية والاجتماعية.

Leave a Comment
آخر الأخبار