الحرية- جواد ديوب:
أستمع إلى فيروز تغني (من كلمات جوزيف حرب وألحان فيلمون وهبي):
طلعلي البكي نحنا وقاعدين
لآخر مرة سوا وساكتين
ب عيونَك حنين.. وب سكوتَك حنين
لو بعرف حبيبي.. بتفكر بمين!
بالقهوة البحرية وطلّع ب إيديك
وتشرب من فنجانك واشرب من عينيك
وتهرب مني تضيع وما إرجع لاقيك
وإنت قاعد حدي وعم فتش عليك
بخبي وجّي شوفك مدري مع مين
آه لو بعرف حبيبي… بتفكر بمين!
أفكر وأكتب: لا جمالَ في هذه الحياة القاسية بلا نكهة هيل الشعر وهو يضمّخ يومياتنا ويُجمّل كتاباتنا ويلطّف من خشونتنا، ويجعلنا نعيد ترميم ما فتته الزمن من أرواحنا.
أعدُّ فنجان قهوة في برودة يومٍ خريفي من أيلول الجميل و تستدرجني رائحةُ القهوة للتفكير في الفرق بين فنجان القهوة الخزفيّ والكأسِ الزجاجيةِ التي يفضل البعض شرب قهوتهم الصباحية بها:
سطحٌ أسود يبينُ من الفنجان الأبيض/ فيما مكنوناتُ الكأسِ الشفّافةِ واضحةٌ للعين!
انعكاسٌ لموجوداتٍ محيطةٍ تتأرجحُ على الرغوة الطافية على سطح الفنجان/فيما كينونةٌ كاملةٌ مسكوبةٌ في الكأس!
جسدُ الفنجان صُلبٌ وقاسٍ/ جَسَدُ الكأسِ رقيقٌ وقلبُهُا شفوق!
هكذا يصبح غموضُ سواد القهوة التباساً في الشكلِ كما أنّه التباسٌ في المعنى مسبقاً.
رائحة القهوة!
الرائحةُ أيضاً جزءٌ حميمٌ من غموضِ المعنى الكامن في القهوة، فهل يمكن أن “نفكِّرَ” بالقهوة من دون استحضارِ رائحتها حتى قبل أن نستمتعَ بطعمها؟
أفكّر وأكتب أيضاً:
رائحةُ القهوة هي المعنى والرؤية إذاً؛ أما الطعمُ فهو التباسٌ ووعدٌ مؤجّل… ثم أعدّلُ قليلاً:
رائحةُ القهوة لُبٌّ وجوهرٌ؛ الطعمُ هو قولٌ على قولٍ، تفسيرٌ جديدٌ، بل “حَدَثٌ جماليٌّ” يبزغُ كلّما لامستْ شفاهُنا حرْفَ الفنجان.
رائحةُ القهوة تاريخٌ سِرّيٌ لِما لا يُقال؛ الطعمُ هو كشفٌ وفضحٌ، بل هو بوحٌ وانعتاق، رائحةُ القهوة تأريخٌ لنبوءاتِ الناطرين على حافّة الغيم، وتخمينٌ للمستقبل المأمولِ في كفِّ الغيب.
لكنّي أزيدُكم بالاعترافِ أنني لستُ من عشاق القهوة، إلّا أن طعمَها بالنسبة لي هو العيشُ ذاتُه، استباقٌ لمرارةِ المفاجآت التي لا تنتهي، وتوقّعٌ للخيباتِ الواقعيّة، وتحضيرٌ لاحتمال الأحزانِ وفقدانِ الأحبّة.
محمود درويش والقهوة!
نعم، لكلٍّ مِنّا قهوتُه الخاصة، وللقهوة شعراؤها! شعراءٌ تغزلوا بها أو شكلت مذاقاً خاصاً في شعرهم، بل كانت جزءاً لصيقاً وحميماً من حياتهم وذكرياتهم، فها هو محمود درويش في كتابه النثري (ذاكرة للنسيان) يقول عنها:
“القهوة، لمن أدمنها مثلي هي مفتاحُ النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي؛ هي أن تصنعها بيديّك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت. الفجرُ، أعني فجري، نقيضُ الكلام. رائحة القهوة تتشرّب الأصوات، حتى لو كانت تحيةً مثل (صباح الخير) وتفسد.”
حبُّ درويش للقهوة جعله يقيس درجة ذوق صانعها، يوضح ويقول:
“أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي. أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها. لا قهوة تشبه قهوة أخرى. ودفاعي عن القهوة هو دفاع عن خصوصية الفارِق. ليس هنالك مذاقٌ اسمه مذاق القهوة، فالقهوة ليستْ مفهومًا وليست مادة واحدة، وليست مطلقًا. لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حدّ أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته.”
فنجان نزار قباني!
معظمنا يعرف قصيدة الشاعر نزار قباني (قارئة الفنجان) التي غناها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ من ألحان محمد الموجي، وشكّلت عند محبيها ذكرى حميمة من أيام الحب والصبا، لكن الشاعر نزار إلى جانب ذكرياته عن طاحونة البن اليدوية في بيتهم الدمشقي يكتب غزليةً رقيقةً كأنها مشهدٌ سينمائي لا ينسى.
أترككم معه ومع ذكرياتكم الخاصة عن القهوة وخيالاتكم وحكاياتكم عنها:
جواري اتخذت مقعدها كوعاءِ الورد في اطمئنانها
وكتابٌ ضارعٌ في يدها يحصد الفُضلَةَ من إيمانها
يثب الفنجان من لهفته في يدي، شوقاً إلى فنجانها
شاركيني قهوة الصبح.. ولا تدفني نفسك في أشجانها
إنني جارك يا سيدتي والربى تسأل عن جيرانها
من أنا! خلّي السؤالاتِ… أنا لوحةٌ تبحث عن ألوانها
موعداً… سيدتي! وابتسمتْ وأشارت لي إلى عنوانها
وتطلعتُ فلم ألمح سوى طبعة الحمرة في فنجانها.