الحرية – سامي عيسى – مركزان الخليل:
لا يكاد يمضي يوم إلا ويكتب فيه الكثير من المقالات الإعلامية، عما يحدث في أسواقنا المحلية، من فلتان في الأسعار، وتلاعب في جودة المنتجات، وتجار يلعبون، ويتلاعبون بقوت المواطن، أرصفة تغزوها منتجات لا تتمتع بأدنى شروط الجودة، رخصها يدفع أصحاب الدخل المحدود باتجاهها واقتنائها تحت ضغط الحاجة، رقابة لا ترقى إلى مستوى خطورتها، رغم كل ذلك فالأسعار في حالة جنون للكثير من السلع، مع الأسف الشديد على التجار الذين يبيعون السلعة الواحدة في السوق نفسها بأسعار مختلفة، دون مراعاة الحالة الاقتصادية والاجتماعية، ولا حتى الأخلاقية التي ضاعت عندها كل مفردات السوق النظيفة..!
“الليرة والدولار” مسؤولية مشتركة في خلخلة الأسواق وإعطاء صك البراءة لسوء الكثير من تجارنا..؟!
عجائب الأسواق
“الحرية” جالت في أسواق المدينة، منها الرئيسية، ومنها في الأحياء الشعبية، وأجرت مقاربة سعرية فيما بينها، فلا أسعار المنتجات الغذائية تباع بأسعار محددة قريبة من واقع المعيشة، واختلاف كبير بين الأسواق تصل نسبتها لأكثر من 35%، وبعضها يصل لأكثر من خمسين في المائة، والحال ذاته ينطبق على قطاع الألبسة وغيرها، لكن هذا القطاع يشهد انخفاضاً كبيراً في الأسعار، ليس رأفة من التجار بحال الناس، وليس مكرمة منهم في هذه الظروف الصعبة، وتردي معيشة الناس، بل لضعف القوة الشرائية، وتراجع مستويات الدخل لدى شريحة واسعة من الأسر السورية…!
اللقاءات مع تجار السوق، “المفرق- نصف الجملة- والجملة” وحتى بسطات الأرصفة، يحملون إجابات مختلفة لكنهم متفقون على كلمات محددة ” بدنا نعيش، لسنا مسؤولين عن التسعير، السلعة ذاتها تصلنا بأسعار مختلفة، الدولار لا يرحمنا، واستقرار سعره معدوم لذلك تجد هذه الأسعار المختلفة للسلعة الواحدة في نفس السوق، وأكثر حالات الاختلاف في الأحياء والحارات الشعبية البعيدة عن الرقابة وحماية المستهلك..!
إذاً عجائب الأسواق، وما يحدث فيها يثير حالات القلق ليس عند المواطنين فحسب، بل عند الكثير من الفعاليات التجارية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، وأصحاب الفكر الاقتصادي والخبراء، الأمر الذي أثار الكثير من الأسئلة حول ما يحدث من فوضى في الأسواق، وتلاعب بجودة المنتجات، وأسعار الصرف، وبالتالي كيف السبيل لمعالجة هذه الفوضى السعرية، عند أهل والاقتصاد والخبرة، وما دور المؤسسات المالية والصرافة في إيجاد الحل المناسب..؟
والسؤال الأهم يتعلق بامكانية العودة إلى التسعير المركزي والإداري باعتباره الخيار السليم لضبط فوضى الأسواق..؟
دون تجاهل غياب الرقابة التموينية عن الأسواق واعتبارها أحد أسباب الفوضى..؟!
عياش: تباين الأسعار في ظل اقتصاد حر تنافسي حالة طبيعية والرهان على وعي المستهلك والمنظمات المسؤولة عنه
حالة طبيعية
الخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش: يرى أن الواقع وضمن التوجه الاقتصادي الجديد نحو اقتصاد حر تنافسي لا يعتبر التباين في الأسعار حالة من الفوضى، بل تعتبر حالة طبيعية ضمن مفهوم التنافس الحر وبالتالي يتم التسعير وفق اعتبارات تنافسية ويبقى الرهان في هذه الحالة على مدى وعي المستهلك ومدى تأثير المنظمات التي تعنى بحماية المستهلك.
ولا يحتاج تباين الأسعار أياً من الحجج والتبربرات، التي اعتدنا عليها سابقاً كتغيرات سعر الصرف، والنفقات المستترة وغيرها، فهذه الأعذار غير مقبولة وغير موضوعية، والسبب الفعلي لتباين الاسعار يعود إلى الحالة التنافسية، وما تسمح به من نسب أرباح تنعكس على الأسعار، فكلما كانت التنافسية مرتفعة وعادلة، كلما ضغطت على الأسعار، وأدت إلى توازنها واستقرارها، وتقارب نسب الأرباح الممكنة.
وبالتالي من حيث المبدأ لا مشكلة في ذلك نظرياً، إذا توافرت شروط المنافسة الحرة في الأسواق، وبواقعية نقول إنها غير محققة في أسواقنا حالياً، وأحد أهم معوقاتها هو محدودية الدخل وضعف قدرته الشرائية، لذلك يصبح تباين الأسعار حالة غير مريحة للمستهلك وتشعره بشيء من الغبن.
وهنا يرى الخبير الاقتصادي عمار يوسف في مشاطرة للرأي مع “عياش”، أن السمة الأبرز والغالبة في الأسواق حالياً، هي عدم الانضباط والفوضى وخاصة فوضى التسعير، والخطر منها المواد غير النظامية، والتي تدخل من خلال المعابر الحدودية، والتي تحمل الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة حول صلاحية استخدامها للاستهلاك أم لا، وهذا الأمر يشكل خطورة واضحة وكبيرة للسوق المحلية، ودخولها من دون رقابة جمركية وغيرها، الأمر الذي يؤدي إلى انفلات الاسعار.
حالة مشوشة
ويعود “عياش” للقول إنه في سياق ما تقدم ووفق منهجية اقتصاد السوق الحر فإن ضبط الأسعار يتحدد من خلال قاعدة توازنات قوى العرض والطلب، ومن خلالها يتم تحديد وضبط الأسعار السائدة، ولكن هذه القاعدة لتكون فعالة تحتاج لمقومات محددة، وهنا تكمن المشكلة، فمازلنا في مرحلة انتقالية بين اقتصاد شبه مخطط مركزي نظرياً أو ما سمي اقتصاد السوق الاجتماعي (فعلياً هو اقتصاد احتكار القلة)، وبين النموذج المأمول وهو اقتصاد حر تنافسي.. وبالتالي مازالت مقوماته غير متوافرة، وهذا ينعكس اضطراباً في الأسواق وتبايناً في التسعير.
عياش: محدودية الدخل وضعف قدرته الشرائية.. لذلك يصبح تباين الأسعار حالة غير مريحة للمستهلك وتشعره بشيء من الغبن
والحل الأمثل في هذه الظروف يكمن في الجوانب التالية:
١- زيادة الدخل وتعزيز القدرة الشرائية للدخل التصرفي، المتاح بما يعزز القدرة التفاوضية للمستهلك، ويوسع خياراته ما يشكل قوى ضغط على حلقات التوزيع لتسعير أكثر توازناً.
٢- زيادة الوعي لجهة الاستهلاكي لدى المجتمع، لجهة عادات الاستهلاك وعادات الشراء ونشر ثقافة الشكوى والمقاطعة للضغط على حلقات التوزيع.
3- تفعيل دور جمعيات حماية المستهلك، فحماية المستهلك ثقافة يفرضها المجتمع، وتمثلها منظماته وليست قوانين تفرضها السلطة، بل السلطة تضمن وتحمي الحقوق.
4- توفير عرض سلعي كافٍ سواء من خلال الإنتاج المحلي أو الاستيراد وتأمين بدائل كافية لمنع حالات الاحتكار والانتهازية والابتزاز.
يوسف: مازلنا بحالة فوضى اقتصادية تتخللها فوضى في التسعير.. وبالتالي هنا التسعير الإداري غير مفيد لفقدان المؤيد الجزائي
في حين يرى “يوسف” صعوبة في الحل مؤكداً أنه لا توجد أي جهة في العالم حمايتها في ظل ظروف صعبة، كما نحن عليه.. بوجود فوضى أسواق ومتنفذين كثر، الذين انتهكوا كل محرمات الأسواق، ولقمة عيش المواطن، ونلاحظ بشكل عام هذه الأيام حالة كساد كبيرة في الأسواق، نتيجة شح السيولة وضعف القوة الشرائية للمواطن، الأمر الذي دفع معظم التجار والمتنفذين منهم، لبيع السلع بأسعار متدنية خشية الخسارات المتلاحقة والحفاظ على رؤوس أموالهم..
وبالتالي أسواق متروكة حالياً للفوضى، تحكمها رؤية ضبابية والجهات المعنية غير قادرة على ضبطها في الوقت الراهن، ومستقبلاً يمكن ضبطها عندما تستقيم الأمور والجهات الرقابية والمعنية تأخذ دورها في الحماية، وضبط حلقات الوساطة التجارية من المنبع حتى المصب..!
المركزي مستبعد..!
ويعود “عياش” للقول خلال رده حول اعتماد التسعير الإداري أو المركزي كأحد الحلول حيث قال: إنه في خضم التحول نحو اقتصاد تنافسي حر، لا يمكن الاعتماد على منظومات التسعير المركزي أو الإداري، فهذه المنظومات تتعارض مع مبادئ الاقتصاد الحر وتقيد المنافسة الحرة.
ولكن في المرحلة الانتقالية الراهنة، قد يكون من المفيد الاعتماد على التسعير الإداري لبعض السلع الأساسية، ويمكن التعبير عنها بسلة احتياجات المستهلك المعتمدة لدى المكتب المركزي للإحصاء مثلاً، وهي تشمل السلع والخدمات الأساسية الضرورية فقط، كما يمكن إعادة تشكيلها وفق الأولويات الراهنة.
وهنا يتفق الباحث الاقتصادي “عمار يوسف” في رأيه مع ” عياش ” ويؤكد أن التسعير الإداري لو عاد ثانية إلى الميدان فلن نستفيد منه شيئاً لفقدانه عنصر التأييد الجزائي وخاصة موضوع المخالفات التسعيرية، وهنا نستطيع القول إن إمكانية ضبط التسعير في بقالية وسوبر ماركة وسوق جملة وغيرها ممكنة، لكن لا يمكن ضبطها في سوق المهربات والبسطات التي تحوي مهربات معظمها من مصادر مجهولة، وبالتالي السمة المطلقة للأسواق هي الفوضى في هذه المرحلة، والسوق كفيل بمعالجتها، وبالتالي هنا التسعير الإداري والمركزي غير مفيد لعدم وجود المؤيد الجزائي..
يوسف: مؤسسات الصرافة لا تتحمل مسؤولية فوضى الأسواق.. لأنها أصبحت واقعاً.. وأمر المعالجة متروك للسوق من خلال قانون العرض والطلب
رقابة محدودة
أما فيما يتعلق بموضوع الرقابة يرى “عياش” في اقتصاد السوق الحر تنتقل مهمة مراقبة الأسواق وحماية المستهلك، من السلطات الرسمية، إلى المجتمع عبر منظماته المختلفة، ولاسيما جمعيات حماية المستهلك، ففي الاقتصادات الرأسمالية الكبرى، لهذه الجمعيات لها تأثير كبير وفاعلية عالية على الأسواق، والمستهلكين والمنتجين، وحتى على السلطات ذات العلاقة، ويساندها وعي مجتمعي وثقافة سائدة حول حقوق المستهلك، وبالتالي لا يعول في هذه الحالة على رقابة السلطات التموينية، وخصوصاً فيما يرتبط بالرقابة على الأسعار.
ولكن نعود للواقعية وفي هذه المرحلة يمكن اعتماد الرقابة على أسعار السلع الأساسية فقط وفق ما يتم اعتماد تسعيره إدارياً، ولكن يجب أن تكون الرقابة شديدة وصارمة على منع الاحتكار، وعلى الجودة وسلامة الغذاء وتخزينه ونقله وعرضه، وكذلك الالتزام بعرض الأسعار، وسرعة الاستجابة للشكاوى.
لكن “يوسف” يخالفه قليلاً في ذلك، ويرى أن دور الرقابة التموينية في ضبط الأسواق ليست سبباً جوهرياً لفوضى الأسواق، رغم معاناتها من حالة ضعف كبيرة، منذ زمن النظام البائد وحتى أيامنا هذه، وأسواقنا منذ سنوات تعيش فوضى اقتصادية وأزمات سوقية وغيرها..
براعة في اللعب..!
“يوسف” يحمل في رأيه الكثير من المفردات السعرية المرتبطة بالمنتج المحلي والذي ارتفعت أسعاره بشكل غير طبيعي، وتجارنا بارعون في هذا المجال، فعندما ينخفض الدولار “وهو مقياسهم” لحركة السوق حالياً، يحجمون عن خفض أسعارهم، والعكس هو صحيح، فالزيادة تعقبها زيادات أكبر، وهذه لعبة واضحة للعيان، جميع حلقات الوساطة التجارية هم لاعبون بارعون فيها، والمستهلك هو الشباك الذي تسقط فيه كل أهدافهم، التي تخدم مصالحهم، والليرة والدولار متهمان أساسيان في خلخلة الأسواق، وصك البراءة لسوء الكثير من التجار، والذي يشجع ذلك غياب كامل لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، بعد سقوط النظام البائد، هذا يأتي ضمن مرحلة انتقالية طبيعية بين نظامين، ريثما تضح الرؤية للمرحلة الحالية والقادمة، وبالتالي الجو ملائم لنمو اقتصاد طفيلي يكثر فيه تجار الأزمات والمستغلون أي وجود بيئة مناسبة لهم تكثر فيها الفوضى بكل أشكالها وهنا أعني فوضى التجارة.
وهنا يرى “يوسف” أن مؤسسات الصرافة ليس لها دور فيما يحدث لأن الفوضى حدثت وأصبحت واقعاً، وبالتالي سوف نضطر لترك أمر المعالجة للسوق من خلال قانون العرض والطلب، وضخ السيولة والمنافسة بين المستوردين والتجار والحل الوحيد في تثبيت سعر الصرف، ورغم أنه يشهد حالات استقرار طويلة، إلا أنه هناك حلقة مخفية أبطالها التجار والمضاربون في الأسواق.. والمؤسسات المالية ليس لها علاقة فيما يحدث من فلتان سعري في الأسواق، وهي بحد ذاتها لديها من المشكلات ما لا يقل أهمية فيما يحدث في الأسواق..
الأشقر: أعباء المنصة وإتاواتها الباهظة أيام النظام البائد.. وارتفاع أسعار المحروقات وأجور النقل وراء شلل الأسواق وحرمانها من نعمة الاستقرار..!
أهل الكار
لأهل الكار نصيب كبير من الرأي، يقارب الواقع إلى حد بعيد في رؤيته لما يحدث في أسواقنا المحلية، وهنا يرى عضو غرفة تجارة دمشق “محمد لؤي برهان الدين الأشقر” أن سبب تفاوت أسعار السلع في الأسواق، يعود إلى عدة عوامل منها: حالة الإغلاق سابقاً، وأن السلع التي كانت موجودة في المستودعات ذات تكاليف مرتفعة، نتيجة أعباء المنصة، وما كان يفرض عليها من إتاوات أيام النظام البائد، وارتفاع أسعار المحروقات، وأجور النقل، وإن الانفتاح على الأسواق حالياً ودخول بضائع بتكلفة وأسعار منخفضة، أدى إلى وجود هذا التفاوت في أسعار السلع، مبيناً أن ذلك أمر طبيعي في هذه المرحلة المؤقتة.
وأوضح الأشقر أن عدم استقرار أسعار الصرف، وارتفاعها خلال اليومين الماضيين بنسبة تصل إلى ١٥٪ أدى أيضاً إلى تذبذب الأسعار، إضافة إلى أن مستوى الدخل لا يتناسب مع أسعار السلع، وهناك انخفاض في القوة الشرائية للمواطنين، والتي يعود أيضاً سببها إلى حبس السيولة النقدية في المصارف، منوهاً بأن السوق قادرة على تنظيم نفسها بنفسها، من خلال العرض والطلب، مؤكداً أنه مع سياسة السوق المفتوحة وتشجيع المنافسة، وأنه ليس مع سياسة التسعير وإنما ترك السوق مفتوحةً، وترك الحرية للمستهلك باختيار السلعة المناسب سعراً وجودة ومواصفة، دون أن نتجاهل فعل العقوبات السلبي على الاقتصاد الوطني والتي أدت إلى عدم تدفق السيولة الخارجية ما تسبب بارتفاع أسعار صرف الدولار.
الخلاصة
في خلاصة الموضوع أن الكل مجمعون إلى حد بعيد في آرائهم على ما يحدث في أسواقنا المحلية، وإن اختلفوا قليلاً في النظر إليها، حسب الاهتمام والاتجاه، وحتى الخبرة، إلا أن الجميع مدرك أن الأسواق بحاجة إلى عملية ترميم جديدة يقودها قانون العرض والطلب، إلى جانب توافر المستلزمات الأساسية والضرورية للمواطنين بأسعار معقولة، تتناسب مع القوة الشرائية التي تفرض نفسها وبقوة على الواقع المتردي، وإذا لم تتحسن، فإن جميع الإجراءات والقرارات والإصلاحات التي تقوم بها الحكومة، والجهات المسؤولة عنها لا تساوي الحبر الذي تكتب به، ولا حتى زمن تفكيرهم، لذلك القوة الشرائية هي الأساس في معالجة مشكلات السوق وغير ذلك ذرٌ في للرماد في العيون..