الكوميديا تُزهِرُ مِن الألم… والضحكُ يداوي المظلومين!

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – جواد ديوب:

حملت لنا رواية الراحل أمبيرتو إيكو «اسمُ الوردة» معلومةً قيّمةً أن النسخةَ الوحيدة من كِتاب «الضحك» لأرسطو، والتي سلمت من الحرق (المترجمة عن العربية بعد تفسيرات الفيلسوف ابن رشد لمؤلفات أرسطو) تلك النسخة بقيت ممنوعةً عن الناس، بشكل قطعي، من قبل السلطات الكنَسيّة في القرن الثاني عشر الميلادي، ولم يتسنَّ إلا لقلةٍ قليلة من الرهبان الاطلاع على محتوياتها، وكان مصيرهم الموت بالسمّ الموضوع سرّاً على أطراف المخطوط، وأمّا عن ذريعة منع الكتاب؛ فكانت أنّ الضحكَ يفتح باباً للوساوس ويُقلل من هيبة الإيمان!

ألهذه الدرجة يُعدُّ الضحك خطِراً؟ ألهذا الحد بإمكانِ الكوميديا أن تُدخِلَ الرعبَ في قلوب الجامدين العبوسيين الجديّين لدرجة الجفاف؟

الضحك علاجٌ سحري!

نعم، يبدو أن الفكاهة كانت دائماً سلاح البسطاء ضد المتسلطين على رقابهم وأرزاقهم لإخضاعهم واستلاب عقولهم وتجريف أرواحهم من نضارتها، وعبر الأزمنة كان هناك من يقفون بشجاعة في وجه سلطة رأس المال المتحكّم بمصائر البشر، وضد جبروت الضغط المجتمعي وطغيان عاداته التي تهمّش التفرّد وتلقائية الناس بذريعة العفاف والمحافظة على القيم، رغم أن أوّل من ينتهك عدالة القانون هم الفاسدون من أصحاب رؤوس الأموال والمتحالفون معهم.

أولئك الفكاهيون الشجعان هم الناس العاديون الذين لم يكن في مقدورهم إلا اجتراح حلولٍ مواربة للمجابهة؛ منها الكوميديا المسرحية والنكات الشعبية التي يرددها البشر في سهراتهم ومجالسهم، ويمكن عدّها مقياساً لحيوية شعبٍ ما.

بالتأكيد هناك فرقٌ مهمٌّ بين النكتة الشعبية الدارجة التي لا يُعرَف قائُلها أو مؤلّفها، والكوميديا الأدبية المكتوبة كروايةٍ أو شعرٍ ساخر أو عمل درامي، إلا أنّي، ومهما يكن نوع تلك النثرات المضحكة، أعتقد أن الفكاهة هي دواءٌ للمظلومين عبر التاريخ، وكتّاب الكوميديا هم هِبةٌ ربّانيةٌ لقلوبِ الحزانى.

ربما لا تخرجُ مسلسلاتٌ سوريّةٌ سبقَ عرضُها، مثل “مرايا” ياسر العظمة، و”ضيعة ضايعة” بجزأيه، و”الخربة”، و”بقعة ضوء” بأجزائه المتعددة، و”يوميات مدير عام” الذي يعاد عرضه دائماً…لا تخرجُ عن سياق الكوميديا المخزونة في الجينات السوريّة، فالميزةُ المهمة التي يمتلكها مؤلّفوها المتعددون هي ذاك الفهم الدقيق لطبيعةِ المجتمع السوري والروحِ الجمعيةِ السائدة لدى أناس بيئتنا، لدرجة أن تلك الكوميديا كانت بمنزلة ريشٍ قزحيٍّ يُدغدغُ الغنيَّ والفقير، الكبير والصغير، الموظف وصاحب القرار…لأنها بالضبط تنتمي إلى تلك الهبة التي استطاع صنّاع العمل توليفها وقولبتها لرسم الابتسامةِ على وجوهنا والتخفيف من بلوانا.

الكوميديا تُزهِرُ مِن غصن الألم!

لكن ماذا لو وجدنا إمكانية ما للبحث عمّا وراء المُقال والمُشاهَد! لاكتشاف ما تختزنه أرواحُ مؤلّفي الكوميديا بل حتى ممثلوها؛ أولئك الذين تقمّصوا أدوارهم إلى درجة جعلت المشاهدين، حين يرونهم في الطريق، يُخطِئون بين حقيقة الممثل والشخصية التي لعبها بإتقان!

ربما سنجدهم حسّاسين، شديدي التأثر، متألمين لآلام أهلِ بلدهم، حتى لو كانوا  نفورين ومتوجّسين على الصعيد الشخصي، لكنهم بالتأكيد دقيقو الالتقاط لتفاصيل حياة الناس في ماضيهم وراهنهم ومآسيهم، يدوّنون في عقلهم نماذجَ بشرية/كاركترات مثل تلميذٍ يُشرِّحُ وينبشُ مجسماتٍ حيوية بحثاً عن سرّ الروح!

وربما لذلك يحاولون التخلّص من ألمِ معرفتهم بالحياة وتفاصيلِ الناس، فيطلقونها على شكل كوميديا لاذعة، لكنها صادقة وحقيقية، استطاعوا من خلاها خلق الدهشة عندنا. خاصةً مع ذاك النبض الذي يضخّه ممثلونا السوريون المتميزون في الشخصيات المكتوبة ورقياً فيجعلونها ساطعةً لا تنسى بقوّة الابتسامة التي تبقى على وجوهنا، وتتركنا في لحظة من المتعة الصافية.

Leave a Comment
آخر الأخبار