ذاكرة شعبية ودواء يتجدد.. “الكينا” بين الدلعونا والبحث العلمي

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – باسمة اسماعيل:

مع بداية فصل الخريف، يعود انتشار أمراض الجهاز التنفسي ليطرق أبواب البيوت، فيخلف وعكات صحية ونفسية سببها تقلب درجات الحرارة، وفي هذه اللحظات التي تتكرر كل عام، تستيقظ الذاكرة الشعبية حاملة صوراً وتجارب توارثها الناس، ليبدأ الباحث في التراث الشعبي اللامادي نبيل عجمية حديثه لـ “الحرية” بأنشودة تعبر عن عمق العلاقة بين الإنسان وشجرة الكينا، فيردد:

دلعونا

يا حبّ الكينا يا حبّ الكينا زعلانة الحلوة ما بتحكّينا
كأنو كلامك بدّو يغنّينا
مع السلامة وعمرو ما يكونا

بهذه الأغنية يستعيد عجمية زمناً كانت فيه الكينا «صيدلية القرية»، إذ يشير إلى أنه حتى أواخر الخمسينيات كانت تعد علاجاً شائعاً لمرض “البرداء” المنتشر آنذاك، ولأمراض الجهاز التنفسي، وكان الناس يعمدون إلى تحضير تبخيرة الكينا عبر وضع أوراقها في ماء مغلي، واستنشاق البخار للتخفيف من أعراض البرد وتحفيز المناعة.

ويتابع عجمية حديثه عن تلك الحقبة التي غابت فيها الأدوية الحديثة، فكانت الكينا ملجأ يومياً للاستخدامات العلاجية، قبل أن يبدأ الأسبرين (aspirin)  بالظهور في أحاديث الناس خلال الخمسينيات،  وعند ظهور الأسبرين غنوا له على طريقتهم:

غربي بنياسي وشرقي بنياسي… حبّك يا الأسمر وجّعلي راسي
هاتوا الأسبرين لوجع راسي… لا تقسّي قلبك خليه حنونا

ويستحضر نبيل أيضاً إعلاناً إذاعياً طريفاً من إذاعة بيروت في تلك الفترة:
لا تقلي كاني ماني… اسبرين الألماني هوي العلاج الأوّل… أول ما إلو تاني

وذكر عجمية الشاعر حيدر خليل  في ذكره الكينا قائلاً:

يا حب الكينا هالحلو شرّف
طلّو لعنا… بدنا نتعرّف
لا تقولو عنّي ختيار مخرّف
قلبي بيغنّي على دلعونا

وختم عجمية هكذا تتجلى الذاكرة الشعبية كوثيقة تاريخية، تحفظ ما عاشته المجتمعات من طقوس وعلاجات وأغنيات ترافق الألم والشفاء.

الكينا بين الطب والتراث رؤية علمية حديثة

ما تناقله الأجداد عن فوائد الكينا لم يبق في إطار الموروث الشعبي فقط، بل أثبتت الدراسات العلمية جانباً كبيراً منه، فشجرة الكينا أو الأيوكاليبتوس، تعد من الأكثر انتشاراً في العالم، وتشتهر برائحتها العطرية واحتوائها على زيوت طيارة ذات خصائص مضادة للالتهابات والجراثيم، مسكنة للألم، مفيدة للجهاز التنفسي والمفاصل، كما تستخدم أوراقها ولحاؤها في تحضير أدوية دون وصفة طبية، وفي صناعة المنظفات ومعطرات الجو.

فوائد مثبتة علمياً

وقد أثبتت دراسات عدة فوائدها، منها:

خصائص مضادة للميكروبات:

دراسات عام 2016 في صربيا بينت أن زيت الكينا قد يعزز فاعلية بعض المضادات الحيوية، كما أشارت أبحاث أخرى إلى دوره في مكافحة بكتيريا الجهاز التنفسي العلوي مثل Haemophilus influenzae.

التخفيف من أعراض نزلات البرد:

الغرغرة بأوراق الكينا الطازجة، قد تساعد في تخفيف التهابات الحلق والقصبات والجيوب، واستنشاق الزيت يخفف الاحتقان والبلغم.

تحفيز المناعة:

أظهرت دراسات على الحيوانات أن الكينا تحفز خلايا المناعة البلعمية، وتساهم في تخفيف حالات الالتهاب والمفاصل وبعض الحميات (الحمى).

الكينا في رؤية الطب الحديث

في فيديو توعوي، يوضح د. بيرج بالعربي أن سر قوة اليوكالبتوس (الكينا) على صحة الجيوب والرئتين يكمن في احتوائها على أحد المغذيات النباتية الموجود فيها، الذي يمنحها فوائدها الهائلة ويدعى (اليوكاليبتول)، المسؤول عن أغلب فوائدها. ويعدد منافعها: إرخاء نسيج الرئتين عند حدوث تشنج أو انسداد أو عدم القدرة على التنفس، فهي تساهم في توسيع أوعية نسيج الرئتين، تخفيف المخاط والمساعدة في خروجه من الجيوب أو الرئتين.
خصائص قوية مضادة للميكروبات، والبكتيريا والفيروسات، لذلك يمكن أن تثبط عدوى السل، والمكسرات الذهبية المضادة للمثسلين (البنسلين).
وتساعد في الحد من السعال المزمن، خاصة السعال الليلي، مفيدة لحالات الربو والتهاب الرئتين والقصبات، والتهاب المفاصل.

وأشار د. بيرج إلى أن أهم فوائدها هو قدرتها على كبح السايتوكينات، التي تسبب الالتهاب والانتفاخ والألم.

ويصفها بأنها علاج واسع الطيف، تمت دراستها بشكل دقيق وثبت أنها فعالة وآمنة عند استخدامها بشكل صحيح، وتستخدم كمنقوع  كالشاي أو استنشاق بعد   عليها بإناء، أو كزيت على مكان الألم وليس شرب.

بين أغاني «دلعونا» وذكريات الأجداد من جهة، والدراسات المخبرية والطب الحديث من جهة أخرى، تظل شجرة الكينا شاهداً على التقاء التراث بالعلم. فهي نباتٌ حملته الذاكرة الشعبية كدواء ورفيق شتاء، وجاء العلم ليؤكد أن كثيراً من تلك الفوائد لم تكن مجرد اعتقاد، بل جذورها راسخة في الطبيعة وفعاليتها مثبتة.
وهكذا تستمر الكينا، رمزاً يتوارثه الناس، ودواءً تتجدّد قيمته مع الزمن.

Leave a Comment
آخر الأخبار