الحرية- جواد ديوب:
شغلتني المدنُ دائماً، لأنَّها بيوتُ الذكريات، وبيوتنا فيها مدنٌ كاملةٌ من آلافِ المنمّنمات. لأن للمدن فتنتَها وأسرارَها، جمالُها وعشوائيّتُها، غُنجُها ورصانتُها، رقّتُها وقسوتُها.
لدمشقَ، وبيروتَ، والقاهرةَ، وبغداد، والقدس، وتونس، وصنعاء… وكل العواصم العربية حكاياتُها السحريةُ وأعاجيبها، تاريخُها المحضون في عيون أبنائها، وحاضرها المعجون بدموع أحزانهم وأفراحهم. مدنٌ يحضنها الأدباء في قلوبهم أينما ارتحلوا مثل زوادة تصبّرهم على تحمل وخزات الحنين.
إعجازُ دمشق!
لذلك سألت الشاعر السوري “الرحّالة” هاني نديم: وأنتَ الجوّابُ السوّاحُ بين مدنٍ وعواصم عربية وعالمية.. كيف أثّر ذلك في علاقتك بدمشق؟ هل حملتَها معكَ في تجوالاتك، وهل تتغيّر علاقة الكاتب بالمدن مع تغيّر أنظمتها؟
فأجابنا كأنه يهدِلُ كلماتِه: “لعلَّ ما كتبتُه في مقدمة كتابي فهرست ابن النديم يفي بالغرض، إذ قلت: في حقيقة الأمر، نمتُ في الفنادق البعيدة المجهولة أكثر ممّا نمت في بيتي، من بافاريا لنفاريا، ومن بريدة السعودية إلى بريدا الهولندية، السبت في السودان والأحد في المكسيك، ألاحقُ رزقي من الحياة والتفاصيل والتدوين والروائح، أكتب عن البهارات والفيلة ووحيدي القرن والمقابر وفراشيّ الأسنان ومنتجات “الشيبس” وكلّ ما يمكّنني من قطع “بوردينغ” والطيران. يقول الشاعر هيثكوت ويليامز في قصيدته “العميان والفيل”:
” في قصة العميان
كل أعمى أعطى للفيل وصفاً مختلفاً
حسب أي عضوٍ تحسّسه
والآن لن يبقى لهم
إلا أن يتحسّس واحدُهم الآخر”…
إلا أنني اليوم، والكلام لا يزال للشاعر نديم، وبعد رؤية الفيل كاملاً، وبعد أكثر من ربع قرنٍ في الكتابةِ الصحافية، وأطنانٍ من الورق أزهقناها تحبيراً وكتابةً؛ كلما جئت لأكتب لفظ “دمشق” أو “الشام” يقف قلبي وأفقد التنفس للحظة تماماً كما حدث حينما باغتني والدي وأنا أدخن وراء الحائط أول عمري.”
ويبدو أن العاطفة التي تسري في نسغ الشعراء تتمارى في قَسَم الشاعر نديم رغم محاولة إخفائها، يكمل ويقول:
“أؤكد دون أي نزف لمواطَنة أو تطاول لجنسية أو صلفٍ لانتماء، وأجزم دون الاتكاء على أي مخزون عاطفي أو نتوء نفسي أو تشوّه كيدي وخلافه: أن دمشق هي أجمل مدينة في العالم، وأقسم إن هواءَها جنّةٌ، وماءَها نعمةٌ، وترابَها حِنّةٌ، ونساءَها منّةٌ”.
ولذلك كله فهم الشاعرُ النديمُ لماذا أحصى عبد السلام عيون السود مليونَ بيت شعر قيل في دمشق، بما يعني أضعاف مضاعفة ممّا قيل في روما وأثينا وغيرهما، وفهم – كما يختم لنا- طلبَ الجواهري أن يُدفن فيها، وتشبثَ البياتي بأثوابها، وسببَ عشق سعيد عقل لها، ووله فيروز بها، وخشوع مصطفى جمال الدين وبقية الأسماء التي تؤكد إعجاز دمشق المرعب في تقليب جمر الحنين ومد بساط الغرام.”
الكتابة تفضح أحاسيسنا!
ننقل وجهتنا نحو الأستاذة الجامعية والكاتبة بسمة عمراني ونسألها: ما الذي تعنيه لك تونس مقارنة مع باريس؟ وهل الغربة الطوعية أو القسرية تجعل الكاتب يدرك قيمة مدينته/ وطنه بشكل مختلف؟!
فتبوح لنا من فرنسا وتقول:
“أقيم في باريس منذ سنوات، لكن تونس، أرض الوطن، لم تفارق وجداني. اكتشفتُ هذا مؤخراً في روايتي الأولى “في حالة سورسي”، فكل ما كتبته هو امتداد لتفاصيل الحياة اليومية في تونس: البطالة، القمع، أحلام الشباب، الغربة، الرجوع للوطن، كتبت عن مواضيع يتطرقُها التونسيون كل يوم، كأنني لا أعيش في باريس بل في تونس. الكتابة تفضح أحاسيسنا!
جسدي هنا وروحي هناك!
الكاتبة عمراني تدرك جيداً كيف أن “باريس مدينة مختلفة وفّرت لها مكاناً للعيش والتفكير، لكنها لا تملك رائحة البيت الأول تونس”.
تنهي بوحها كما لو أنها تستودعنا سراً، تقول:
“تونس هي ذاكرتي وألمي وصوتي والأرض الأم. كل ما عشته هناك لا يمكن لأحد أن يقتلعه، هو مِنّي، هو أناي، هو هويتي. تونس ليست فقط موضوعاً في كتاباتي، بل هي المغزى والهدف والبنية الخفية؛ روحي هناك وجسدي هنا.”
أترك صديقيّ البسمة والنديم واقعين في أفخاخ الذاكرة وشِباك الحنين، وأغوصُ أنا في “دمشقي” الخاصة: أصيرُ حبّةَ سمسم على منقوشة زعتر في ساروجا ، ذرّةَ مِلحٍ على رغيف تنّور في القيمريّة، وَبَرَاً عسليَّ اللونِ على قِطّةٍ من قِطط قصر العظم، عشبةً سِحريةً في سوق العطارين، حكاية في مقهى النوفرة، شَجَناً في ناي يعزِفُ مقامَ البيات قربَ باب توما، غيماً يرتحلُ عِشقاً، وردةً جوريّةً تطفو فوق ماء البحرات في التكية السليمانية، كتفاً للأصدقاء الحزانى، وضحكةَ فرح على وجه حبيبتي.