الحرية- علي الرّاعي:
بهدوء المتأملين، ودون جلبة؛ يُقدّم الفنان تمّام محمد تنويعاته التشكيلية عبر تجربة فنية أمست اليوم من الثراء بمكانٍ لافت في المشهد التشكيلي السوري.. فهي ورغم انعطفاتها كل مرة، غير إنه استطاع أن يمتلك أسلوباً فنيّاً جعله يبرز كفنان استطاع أن ينسج لنفسه هويةً بصرية مميزة، تجمع بين الحلم والذاكرة، وبين الانفعال بالواقع والانحياز للشكل واللون بوصفهما لغتين تعبّران عن الوجدان الإنساني أكثر مما تعبّران عن المشهد المرئي ذاته.

الواقعية التي تتنفس الشعر
في المرحلة الأولى التي يعرض أعمالاً منها كل حين، حيث يُمكن ملاحظة ميله الواضحٍ إلى تصوير الحياة اليومية، الريف، الوجوه الشعبية، والأحياء القديمة التي كانت تشكّل ذاكرة المدينة، أو الضيعة.. لكن بعينٍ شاعرية تُخضع التفاصيل للانفعال الداخلي أكثر مما تكتفي برصدها.. فقد تعامل مع الطيف اللوني كأداة لاستحضار الدفء الإنساني، فمزج بين الظلال الترابية والدرجات الدافئة للأحمر والبرتقالي، وكأنّه يكتبُ قصيدةً مرئية عن الأرض وأبنائها.. فقد تعامل مع اللوحة ليس بوصفها مرآةً للواقع، بل كنافذةٍ تنفتح على الوجدان.
نحو التجريد الإنساني
وفي منتصف مسيرته، اتّجه تمّام محمد نحو مرحلةٍ أكثر تحرراً من القيود الشكلية، فقد أخذت أعماله تتجه إلى التجريد الإنساني، بتلك المساحة التي تجمع بين الشكل الرمزي والإحساس المجرّد.. ولم يعد يهتم بتفاصيل الوجوه أو المعمار، بل صار يبحث عن الإيقاع الداخلي للوحة، وعن العلاقات التي تنشأ بين الألوان والخطوط والمساحات.. وفي هذه المرحلة، يمكن للمتلقي أن يلمس تغيراً في نَفَس اللوحة التي أصبحت أكثر تأملاً وعمقاً، فأخذت الخطوط تتقاطع لتكوّن بنىً هندسية مفعمة بالحركة، كأنها ترسم خريطة داخلية للروح.. كما استعاض عن المشهد الواقعي برموزٍ لونية تقتربُ من الشعر البصري؛ فكلّ مساحة لون تحملُ إحساساً، وكلُّ ظلٍّ يشيرُ إلى معنى غائب.
اللون بوصفه ذاكرة
ومن ملامح تجربة الفنان تمّام محمد؛ أن اللون عنده ليس عنصراً جمالياً فحسب، بل ذاكرة وبيان روحي.. إذ تتبدى في لوحاته أحياناً مساحات زرقاء تشي بالهدوء والحنين، وطوراً تتفجر درجات الأحمر في طاقة مفعمة بالانفعال العاطفي.. وما يُميز استخدامه للألوان هو وعيه بالعلاقة النفسية بينها.. فحين يختار الأزرق إلى جوار الأصفر، أو يوازن بين البني والترابي، فإنه لا يسعى إلى الانسجام البصري وحده، بل إلى توليد إحساسٍ بالانتماء والدفء، وكأنه يستدعي مشاهد الطفولة أو أطياف الذاكرة البعيدة.. بهذا المعنى، تبدو أعمال تمّام محمد وكأنها كتابة لونية عن الذاكرة الجمعية، عن المدن التي تغيّرت، والأماكن التي اندثرت، وهو لا يرسم هنا أشخاصاً بقدر ما يرسم آثار حضورهم- ظلالهم، أصواتهم، وما تبقّى من حكاياتهم في الجدران القديمة.
التوازن بين الفكرة والتقنية
لقد استطاع تمّام محمد في هذه التجربة التي تُزيّن المشهد التشكيلي السوري وتُثريه؛ أن يُفكّر باللون كما يفكر الفيلسوف بالفكرة، فأسلوبه في توزيع الضوء يشي بذائقةٍ عالية في ضبط الإيقاع البصري.. فكل بقعة ضوء تتخذُ مكانها المدروس لتقود العين نحو محورٍ شعوري محدد.. وهنا تتجلى قدرته على الإخراج البصري، الذي يجعل من كلِّ لوحة مشهداً سردياً مفعماً بالدراما، ويحملُ بداخله قصةً يمكن للمتلقي أن يُعيد تأليفها وفقاً لتجربته الذاتية.
الإنسان في مركز اللوحة
ظل الإنسان محور تجربة تمّام محمد.. من هنا، يمكن القول إن أعماله ليست مجرد لوحات تشكيلية، بل شهادات فنية على تحولات الوعي الإنساني.. هي محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والوجود، بين الذات والآخر، بين الفن والحياة.. حيث يُقدّم فنّه بوصفه فعل مقاومة للقباحة.. وذلك في بحثه عن الجمال القادر على طرح الأسئلة من خلال لوحاتٍ توقظ العين، وتُثير فضول المتلقي، وتحفّزه على النظر مرةً أخرى، وعلى إعادة التفكير في ما يراه، بل في نفسه.
البعد الفلسفي والوجداني
في المرحلة الأحدث من مسيرة تمّام محمد، يُمكن ملاحظة نزعة تأملية عميقة في أعماله.. الخطوط التي أصبحت أكثر حرية، والمساحات اللونية التي أمست أكثر انفتاحاً على الضوء.. كما تبدو لوحاته وكأنها تحاول القبض على لحظة الوعي نفسها، لا الموضوع بحدِّ ذاته.. في هذه المرحلة، تقترب لوحاته من الفلسفة أكثر من السرد، ومن الشعر أكثر من الوثيقة.. هنا تتحوّل اللوحة إلى تجربة روحية، وإلى نوعٍ من التأمل في الوجود.. حيث لا يعود المهم ما يُرى، بل ما يُحسّ.. فالمتلقي لا يقف أمام العمل ليفهمه، بل ليشعر به، وليترك الألوان والملامس تتسلّل إلى ذاكرته وتعيد صياغة علاقته بالعالم.
في أعماله التشكيلية الأحدث؛ نجد الفنان تمّام محمد؛ يميل إلى ملامح محددة، يُمكن أن نقرأها في تفاصيل لوحته؛ وأول هذه الملامح “تأنيث العمل الفني”؛ فهو يُركّز على التكوين النسوي المفعم بالفرح، والرقص، لوحات قد تحتفي بأمرأة واحدة، ولوحات مثنى وثلاث ورباع.. لكنها جميعها، وكأنه يُقدمها على خشبة مسرح، اللوحة هنا أقرب إلى خشبة مسرح، وثمة استعراض نسوي مفعم بالشاعرية يُقدمه بهذه “المسرحة” الملونة للعمل التشكيلي، وأظن هذا الملمح الذي شكّل غوايةً للكتّاب لأن تكون هذه الأعمال العتبة الأولى للكثير من الإصدارات لاسيما اللوحات التي تحتفي بها المجموعات الشعرية على أغلفتها.. وثمة لوحات لافتة هنا وهي اللوحة– المسافة العمرية بين الصبا والشيخوخة، والتي قدمها من خلال مسافة لونية بين صبية وعجوز، والتي تأتي كمن يقرأ خواتيمه ملونة في لوحة تشكيلية، أو كمن يركض خلف صباه لاسيما حين يضع العجوز تلحق الصبية..
الملمح الآخر؛ وهو الرقص، حيث تكاد لا تخلو لوحة من لوحاته من هذه الحركة الراقصة، والمتسامية في الحركة والعلو، إذ يُضفي على هذه التكوينات الكثير من مناخات الاستعراض اللوني والحركي، ما يُقربها من الفنون الزخرفية والمنمنمات، حيث يدمج في بعض أعماله الكثير من خصائص الرقش، والهندسة ومساحات من التجريد، وهو ما يمنح العمل الفني الكثير من التأمل والتأويل، والكثير من المد الفنتازي الذي يتجاوز بالتأكيد تقاليد المنمنمات القديمة، إلى فضاءات المتعة البصرية دون أن يغفل المضامين الفكرية والقيم الجمالية الكثيرة..