الحرية- زيد قطريب:
تدمير الذاكرة، ربما من أكبر الكوارث التي تعرضت لها سوريا، خلال السنوات الماضية. فالبلاد التي قدمت للبشرية، أول أبجدية، وأول حبة قمح، وأول قصيدة، وأول سيف، تتعرض آثارها لتدمير ونهب ممنهج، في مختلف المناطق. ما دفع الأمم المتحدة لإطلاق نداء لحماية الآثار السورية، باعتبارها كنزاً للبشرية جمعاء.
ما يدفعنا لفتح ملف الآثار اليوم، تلك الصور المتداولة لاعتداءات على العديد من المواقع الأثرية، وكان آخرها ما يعرف بـ”مقابر عازار” قرب طرطوس، حيث توجد مقابر فينيقية ورومانية قديمة، يقوم المنقبون بنبشها بمعدات ثقيلة، طمعاً بالعثور على كنوز ومجوهرات وأدوات، يبيعونها للأسواق الخارجية مقابل مبالغ خيالية.
الموضوع لا يقتصر على ذلك، فاليوم تنتشر إعلانات على السوشيال ميديا، تسوق وتبيع أجهزة الكشف عن المعادن والثروات، ويتحدث الكثيرون عن بيع منازلهم من أجل شراء جهاز تنقيب، يكون ضربة حظ تنقلهم إلى الثراء السريع. وقد نشر الأمن العام في المنطقة الوسطى، فيديو يصور عملية توقيف لمجموعة منقبين غير شرعيين في الأرياف، ومصادرة أجهزة التنقيب التي يستخدمونها.
لقد نجت متاحف سوريا من النهب والاعتداء، مثلما حصل في العراق سابقاً، فمنذ الساعات الأولى لتحرير دمشق، تمت حراسة المتحف الوطني الذي يحتوي أهم الكنوز السورية من مختلف العصور التاريخية، لكن مواقع أخرى تعرضت للسرقة، عبر انتشار عمليات التنقيب والحفر العشوائي في الكثير من المناطق التي يعتقد اللصوص أنها مواقع أثرية.
وبالعودة إلى مقابر عازار، التي يتوقع الخبراء أنها تعود لأهالي جزيرة أرواد القدماء، الذين كانوا يدفنون موتاهم على الشاطىء المقابل للجزيرة، فهي تتعرض اليوم لعمليات حفر وتخريب كبيرة بحثاً عن الكنوز، دون أن يدرك أولئك اللصوص القيمة الحقيقية لما يعثرون عليه من لُقى قد تغير نظرتنا للتاريخ. ألم يحصل ذلك عندما اصطدم محراث فلاح بصخرة كبيرة، اعتقد أنها مجرد حجر ضخم، ليتضح لاحقاً، أنها مدينة أوغاريت التاريخ، وليتم اكتشاف أقدم أبجدية، غيرت مفهوم العلماء والمؤرخين حول تاريخ الكتابة واكتشاف الحرف؟.
تحجز سوريا، مكانة متقدمة بين الدول، في قائمة التراث العالمي، من كثرة المواقع الأثرية والممالك القديمة، التي تنتشر في كافة المناطق، أهمها حلب القديمة، ودمشق القديمة، وبصرى، وقلعة صلاح الدين، وتدمر، عدا عن قائمة طويلة من “المدن المنسية” يقدر عددها عالم الآثار جورج تشالنكو، بـ778 موقعاً، موزعة على خرائب، أو بُنيت فوقها تجمعات سكنية حديثة، وأخرى منتشرة بشكل غير محفوظ ومحمي.
هل يمكن بناء المستقبل، دون أن نعرف شيئاً عن حياة الأجداد القدماء، وإنجازاتهم التي عرف قيمتها العالم واحتفى بها، نظراً لما قدمته للبشرية من إنجازات؟.
هل يمكن لسوريا، الشجرة الأم، أن تنهض بأغصانها نحو الأعلى، إذا لم تشرب من ماء الجذور؟ بالتأكيد، لن يدرك لصوص الآثار، أيّ هولٍ يفعلون؟.