الذاكرة المناخية الشعبية وتنبؤات الطقس ما بين الحكمة والتجربة

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – باسمة اسماعيل: 

لم يكن الطقس مجرد حالة جوية عابرة في رحلة الإنسان الطويلة مع الأرض، بل كان شريكاً دائماً في تفاصيل حياته اليومية، من الزراعة والحصاد إلى الأعياد والمعتقدات، فقد راكمت المجتمعات على مر العصور خبرات دقيقة، ربطت فيها بين تحولات الطبيعة ومواعيد المواسم، لتتشكل ما يعرف اليوم بـ الذاكرة المناخية الشعبية، التي نسجت العلاقة بين التراث والمناخ في إطار من الحكمة والتجربة.

من هنا، يظهر بوضوح كيف ارتبطت المناسبات الدينية والزراعية بالتغيرات المناخية، ولعل أبرز مثال على ذلك ما يعرف شعبياً باسم “عيد الصليب والزبيب”، الذي يصادف هذا العام اليوم الأحد 14 أيلول وفق التقويم الغربي، و27 أيلول حسب التقويم الشرقي، الذي يخلد ذكرى دينية لدى إخوتنا المسيحيين، لكنه أيضاً يشكل إشارة مناخية فارقة لدى المزارعين وأبناء الريف.

وفي تصريحه لصحيفتنا “الحرية” يشرح الدكتور رياض قره فلاح، أستاذ علم المناخ في قسم الجغرافيا بجامعة اللاذقية، هذا الارتباط بقوله: طقسياً يعتبر عيد الصليب مؤشراً تقليدياً لانكسار الحر، وبداية موسم الأمطار، وهو يوم نادراً ما يمر دون هطول، كما يستشهد الفلاحون بالمثل (إذا ما شتت بعيدنا بنقطع إيدنا)، ففيه تأكيد على التوقعات الشعبية لبدء الموسم المطري، كما يقال: «إذا صلبت خربت»، أي إن الطقس يتقلب وتتلف المحاصيل مثل العنب والتين، نتيجة تغير الحرارة والرطوبة.

ويرى د. رياض أن الأمثال الشعبية لم تكن مجرد أقوال موروثة، بل كانت في جوهرها أدوات تنبؤ مناخي، اعتمد عليها الفلاح في تخطيطه السنوي للزراعة والحصاد، مشيراً إلى أنه في هذا الوقت، يبدأ تساقط ثمار الزيتون الناضجة، لذا قيل بالأمثال: (لما يصلب الصليب ما ترفع عن زيتونك القضيب) ومع ذلك، يفضل الفلاح تأخير القطاف حتى منتصف تشرين الأول لضمان حجم أكبر وجودة أعلى في عصر الزيت.

تحول سريع ودفء متجدد

ولفت إلى أنه رغم إن عيد الصليب يعد نقطة تحول مناخية، إلا أن التغير لا يدوم طويلاً، فما إن تمر أيام قليلة، حتى يعود الطقس إلى صفائه ودفئه، الأمر الذي عبرت عنه الذاكرة الشعبية بالقول: (بعيد الصليب الآخراني صيف تاني)، أو (مالك صيفية إلا بعيد الصليبية)، في دلالة على موجة صيفية لاحقة تعيد للنهار دفئه وللناس بهجتهم قبل حلول برد الشتاء الحقيقي.

تقويم بالملح تراث تنبؤي فريد

وأضاف: من الممارسات اللافتة التي كانت تجرى في ليلة عيد الصليب، قيام الأجداد بوضع أكوام من ملح الطعام لتوقع كمية الأمطار في الأشهر القادمة، حيث كانت كل كومة تمثل شهراً من أشهر الشتاء (كانون الأول، كانون الثاني، شباط، وآذار) وفي الصباح، يتم تفقد الكومات، وأي كومة تبدو أكثر رطوبة، فهي تشير إلى أن ذلك الشهر سيكون أغزر مطراً.

ونوه د. رياض بأن هذا النموذج البسيط للتنبؤ، يعكس فهماً عميقاً لطبيعة العلاقة بين الإنسان والبيئة، ويبرز كيف أن التجربة الميدانية والمعايشة الطويلة للطبيعة، خلقت لدى الأجداد تقويماً خاصاً بهم، يربط الدين بالزراعة، والطقس بالرزق، والطقوس بالمناخ.

وأوضح ليس غريباً أن يكون للطقس هذا الحضور الطاغي في التراث، فالمناخ كان – ولا يزال – عنصراً حاسماً في حياة الإنسان، لاسيما في المجتمعات الزراعية، ومن خلال أعياد مثل عيد الصليب، تتجلى الحكمة الشعبية التي راكمتها الأجيال، حيث لا تقرأ الظواهر الجوية فقط بأجهزة حديثة، بل أيضاً بأمثال، وتقاليد، وتجارب، تستحق أن يعاد النظر إليها بعين علمية ..

Leave a Comment
آخر الأخبار