الحرية – لمى سليمان:
غُيِّب قطاع التصنيع الزراعي في سوريا لأسباب تندرج تحت إطار الفساد والمصالح الخاصة لبعض المتنفذين على حساب القطاع العام المتهالك، فمن إتلاف للمحاصيل ورميها بدلاً من تصنيعها لضمان فقدان المنتج من السوق وتسهيل استيراده إلى تدمير المعامل والمنشآت وغيرها من الأسباب التي أدت إلى انهيار قطاع التصنيع الزراعي، الذي يعدّ من القطاعات الداعمة للاقتصاد والاستثمار وموفراً للقطع الأجنبي.
تشكل البنية الأساسية
ومن المهم الآن وفي ظروف إعادة البناء والترميم التأكيد على النهوض بهذا القطاع ودعمه، وفي هذا المجال يؤكد الخبير التنموي عبد الرحمن قرنفلة أنّ منتجات الصناعات الغذائية السورية قد وصلت إلى أكثر من 195 دولة في العالم، وهناك شركات وطنية خاصة وصلت إلى العالمية.
قرنفلة: إيقاع سنوات الحرب كان قاسياً جداً على مفاصل قطاع الصناعات الغذائية، وقلب اتجاه محور نموه رأساً على عقب
فالصناعات التي تعتمد على المنتجات الحيوانية والزراعية وصناعة اللحوم وصناعات الحبوب وغيرها، جميعها تشكل البنية الأساسية لقطاع الصناعات الغذائية السورية، بما له من ارتباطات أمامية وخلفية واسعة جداً تؤكد أهمية هذا القطاع في بنية الاقتصاد السوري وفي تعزيز الأمن الغذائي وإيجاد فرص عمل وتصريف الإنتاج الزراعي وتحقيق قيمة مضافة له ، وإيجاد مورد قطع أجنبي ناتج عن تصدير منتجات هذا القطاع.
أعلى المعايير العالمية
ونوه قرنفلة في تصريحه لصحيفة الحرية بأنّ الصناعات الغذائية من أقدم الصناعات التي عرفتها سوريا، وقد نمت وتطورت مدفوعة بجملة من العوامل، في مقدمتها الإنتاج الزراعي المتنوع والفائض عن حاجة السكان والذي يعدّ الأساس في معظم الصناعات الغذائية، وسوريا من البلدان الغنية بتنوع الحاصلات الزراعية وتعدد مواسم الإنتاج، وحساسية هذا الإنتاج لظروف الخزن وتزايد عدد السكان وتحولهم من التحضير اليدوي المنزلي لتلك المنتجات إلى شرائها جاهزة من الأسواق، فضلاً عن الطلب الخارجي نظراً لما تتمتع به منتجات الصناعات الغذائية السورية من سمعة حسنة في الأسواق الخارجية، بسبب النوعية المتميزة للمواد الخام الداخلة في خطوط التصنيع والتحضير، والكفاءة العالية في التصنيع والتعبئة والتغليف، والتي تتم وفق أعلى المعايير العالمية وتلبي متطلبات أكبر شريحة من المستهلكين داخلياً وخارجياً بسبب توفر الخبرات المتوارثة واليد العاملة الرخيصة الفنية والمدربة وعراقة الصناعات تلك، وحجم الاستثمارات المالية العملاقة، الموظفة في هذا النشاط الاقتصادي المهم ودعم ذلك براعة التاجر السوري في فتح الأسواق الخارجية والتعريف بالمنتجات السورية والمشاركة في المعارض المحلية والعربية والدولية.
-إحياء قطاع الصناعات الغذائية وتوفير مستلزمات عمله وتحديد الصناعات الغذائية المطلوبة
وأضاف قرنفلة: إن كلاً من القطاع العام والقطاع الخاص يساهم في نشاط الصناعات الغذائية في سوريا، وتتعدد مستويات التصنيع من الصناعات اليدوية أو المنزلية إلى خطوط الإنتاج الميكانيكية المؤتمتة، حيث تنتشر ورشات صناعة تخليل الزيتون والمخللات وصناعة مشتقات الحليب وتحضير القمر الدين ودبس العنب ودبس التمر في أرياف المحافظات، إضافة إلى الصناعات المنزلية التي تقوم بها بعض الأسر الريفية وتنتج دبس الرمان أو دبس العنب والخل وبعض مصنوعات الحليب التقليدية.
في حين تتواجد مصانع عملاقة لشركات القطاعين العام والخاص في مناطق الإنتاج الزراعي وحول المدن الكبرى، تضم خطوطَ إنتاجٍ وتعبئةٍ وتغليفٍ متكاملة ومختبرات للجودة لمطابقة المنتجات للمواصفات القياسية السورية والعالمية، ويعمل بها مهندسون مختصون بالصناعات الغذائية وعمال فنيون مهرة وعمالة مدربة، وتضم مختبرات كيميائية تعمل وفق أحدث طرق التصنيع الغذائي بالعالم، وتعمل في مجال إنتاج الحليب المعقم والمبستر، وهناك مصانع استخلاص الزيوت، سواء من الزيتون بالطرق الفنية الحديثة، إضافة إلى مصانع الكونسروة وحفظ الخضار والفواكه واستخلاص السكر من الشوندر السكري، ومصانع تحضير خميرة الخبز ومطاحن حبوب القمح وتحضير المعكرونة والشعيرية والحلويات العربية والغربية. ويدعم هذه البنية قطاع تأمين المواد الخام، إما من حقول المزارعين مباشرة عن طريق التعاقد بين المصانع والمزارعين، أو من خلال أسواق الخضار والفواكه المنتشرة في المحافظات، فضلاً عن أسطول النقل الذي يتولى مهامَّ نقل المواد الخام من الحقول وأسواق الخضار والمنتجات النهائية إلى أسواق الاستهلاك.
تراجع مفزع
وعن تأثير سنوات الحرب التي شنها النظام البائد في البلاد على قطاع الصناعات الغذائية، أشار قرنفلة إلى أنّ المنتجات الزراعية ذات طبيعة خاصة تستدعي العمل على حفظها من الهدر ومنع تلفها من خلال إدخالها بخطوط إنتاج صناعية لتلبية الطلب المتزايد على السلع الغذائية وتحقيق الأمن الغذائي الذي يصبُّ في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. إلّا أنّ إيقاع سنوات الحرب كان قاسياً جداً على مفاصل قطاع الصناعات الغذائية ، إذ قلبت الحرب اتجاه محور نموه رأساً على عقب، وجففت منابع تزويده بمدخلات الإنتاج، ودمرت بناه التحتية، وساهمت في تهجير اليد العاملة الخبيرة، ودفعت بعدد من شركات التصنيع الغذائي لنقل مقرات عملها إلى الدول المجاورة، ما أدى إلى تراجع مفزع في نشاط القطاع واقتصار عمله على وحدات إنتاج بسيطة وربما بعضها بدائي عمل تحت ظروف قاسية من نقص مستلزمات الإنتاج في مقدمتها مصادر الطاقة اللازمة للعمل ولتبريد المنتجات وحفظها، وهذا أدى إلى خفض الطاقات الإنتاجية لتتناسب والقدرة على تسويق كامل الكميات المنتجة لعدم توفر المجال لخزن أي فوائض، إضافة إلى تراجع مستوى الاستهلاك المحلي وتدهور الصادرات بشكل كبير.
إحياء الصناعات الغذائية
وطالب قرنفلة بالعمل على إحياء قطاع الصناعات الغذائية وتوفير مستلزمات عمله وتحديد الصناعات الغذائية المطلوبة على مستوى القطر والمحفزات المقترحة لكل صناعة، وتحديد الفرص والتحديات والميزات التنافسية للصناعات الغذائية في السوق المحلي والدولي، ووضع خريطة غذائية تشمل كلّ أنواع الصناعات الغذائية وتوزعها الجغرافي تُراعي الربط بين الخطتين الزراعية والصناعية والعمل على بناء إستراتيجيات الأعمال ونظم الحوكمة والتنظيم الداخلي وتنفيذ أنظمة إدارة الجودة وسلامة الغذاء بشكل منهجي للوصول إلى مستوى الاعتمادية الدولية، وتشجيع التصدير وتطوير أساليبه ورفع كفاءة العمليات اللوجستية والتعبئة والتغليف وتطوير العلامة التجارية، وكذلك تطوير الإنتاج وتحسين الجودة وتعزيز تنافسية المنتجات السورية في الأسواق الخارجية والاستفادة من المزايا النسبية للمنتجات الزراعية السورية في إيجاد قدرة تصديرية تدعم تحقيق الأمن الغذائي العربي، ورفد الخزينة العامة للدولة بالمزيد من القطع الأجنبي، علماً أنّ تحديث الصناعات الغذائية سيصب في خدمة الصناعات الفرعية الأخرى بمختلف أنشطتها وزيادة طاقاتها الإنتاجية.
وحسب قرنفلة، لا بدّ من الأخذ بالحسبان أنّ الصناعات الغذائية هي إرث وطني اشتهرت به سوريا من حيث الجودة والحرفية في التصنيع ، والميزة التنافسية لمكوناته المتميزة، وهذا يحتّم علينا تشجيع المستثمر المحلي على العودة إلى تشغيل منشآته الإنتاجية، ودعمه بحوافز برامج الدعم الحكومي، ومطلوب أيضاً تشجيع رأس المال الأجنبي للمساهمة في تطوير الأساليب الصناعة التقليدية وتحديث التقنيات المستخدمة بما يحقق وفرة الإنتاج وتحسين نوعيته بهدف زيادة قيمته المضافة وزيادة القدرة التصديرية منها وتشغيل المزيد من اليد العاملة.
والجدير ذكره أنّ الصناعات الغذائية تشكل نسبة 13% من إجمالي الاستثمارات التي استقطبها قطاع الأعمال السوري، ومنذ عام 2021 ولغاية عام 2024، تمّ استقطاب 20 مشروعاً في الصناعات الغذائية، بتكلفة تقديرية تتجاوز 500 مليار ليرة سورية، يفترض أن تحقق ما يقارب 2000 فرصة عمل جديدة. وتستفيد مشاريع التصنيع الزراعي والحيواني، ومنشآت فرز وتوضيب المنتجات الزراعية التي تقام خارج المناطق التنموية والتخصصية من حوافز ضريبية، بدءاً من تاريخ بدء التشغيل، ومن تخفيض ضريبي بمقدار 75% من ضريبة الدخل لمدة /10/ سنوات.
العفيف: ضرورة الانتقال من العوز إلى الوفرة والبدء بالتصنيع الزراعي للاستفادة من بعض المنتجات في موسمها
الإنتاج الزراعي في خطر
من جانبه، يرى الباحث التنموي أكرم العفيف في تصريح مماثل أن الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني في خطر بسبب المنتجات المستوردة التي تغزو الأسواق بأسعار أقل من التكاليف، وقد أصبح من الضروري الانتقال من حالة العوز إلى الوفرة والبدء بعملية التصنيع الزراعي للاستفادة من بعض المنتجات في موسمها، على سبيل المثال الفطر المحاري الذي يمكن تصنيعه وتعليبه أو تجفيفه بدلاً من تكديسه في الأسواق. وفي الفترة القادمة من الممكن الوصول إلى شراكة مع صناع القرار بإعطاء الموافقات لمشاغل التعليب والتجفيف والتفريز، وصولاً إلى منتج يمتاز بصفة الديمومة والاستمرارية.
وأمل العفيف بوجود منشآت للتعليب والتغليف والبسترة في الفترة القادمة للوصول إلى منتج دائم .
اقرأ أيضاً: