الحرية:
رغم أن نصف العالم على الأقل واقع فعلياً تحت سطوة حروب وفوضى ودمار، ويؤثر بصورة مباشرة على النصف الآخر، إلا أنه لا يمكن، ولا للحظة، عدم متابعة النار التي اندلعت، بصورة غير متوقعة، بين باكستان والهند، والتي يرتفع لهيبها بصورة مستمرة، وبما يجعل القلق العالمي مضاعفاً، خصوصاً أن كليهما دولة نووية، حيث إن مستوى التهديدات المتبادلة بينهما يكاد يصل إلى السقف النووي.
ورغم ما يُقال عن أطراف دولية قد تكون على صلة بما يجري بين باكستان والهند، أو هي مستفيدة منه على الأقل، في إطار خريطة عالمية جديدة تتشكل، وما زالت تتأرجح على زئبق مخططات القوى العالمية الحالية، وقوى عائدة، وأخرى صاعدة.. إلا أنه لا يمكن، ولا للحظة، عدم التوقف عند مسألة مهمة، وهي أن الجميع، أي تلك القوى، لا تفعل شيئاً، حتى يمكن القول إنها لا تبدو مهتمة بما يكفي، أو بما هو متوقع منها، للتوسط والتهدئة. هذا ما يبدو، إلا إذا كان هناك من جهود وتحركات غير معلنة.
لنذكّر هنا أن الولايات المتحدة الأميركية اعتبرت نفسها غير معنية، ولا شأن لها بما يجري بين باكستان والهند، ومثلها فعلت دول كبرى أخرى، وبصورة لا تبدو مفهومة أو مقنعة.. فما الذي تخفيه هذه المواقف؟
على المستوى الإعلامي/الدولي/الغربي، لا يكاد يختلف الحال كثيراً، وإن كانت الصحف الغربية بدأت خلال اليومين الماضيين ترفع وتيرة الاهتمام وتوسع حالة التحذير من أن الوضع بات مقلقاً جداً.
صحيفة الـ«تيلغراف» البريطانية، قدمت رؤية مختلفة للتصعيد بين الهند وباكستان، ربطتها بما سمته غياب الشرطي العالمي (في إشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية) وذلك في مقال لها اليوم الجمعة تحت عنوان: «انتهى السلام الطويل.. مرحباً بعصر جديد من الحرب والفوضى والدمار» والمقال للكاتب أليستر هيث.
ويرى هيث أن الصراع الهندي – الباكستاني قد يؤدي إلى تعجيل صراع عالمي لا يمكن لأي تحالف أو آلية أن توقفه.
ومع الذكرى 80 ليوم النصر على «ألمانيا النازية» في الحرب العالمية الثانية، يقترب العالم أكثر من أي وقت مضى من حريق مروع آخر، وتمثل المواجهة العسكرية بين الهند وباكستان أحدث تصعيد مرعب، وفق تحليل هيث.
ويعتقد الكاتب أن الصراع الذي قد يحمل اسم الحرب العالمية الثالثة قادم، بدون القدرة على إيقافه عبر أي آلية، أو تحالف.
يُظهر هيث رؤية متشائمة، يقوله: «يبدو الوضع ميئوساً منه. ويرى أن السلام الطويل كان نتيجةً للهيمنة الأمريكية والحرب الباردة وليس، كما أقنعت نخب غربية نفسها بأنه نتيجة ثانوية لصعودٍ حتميٍ للبشرية من الخرافة إلى العقل».
ويرى الكاتب فوضى متعددة الأقطاب ملأت الفراغ الذي خلفه تراجع الولايات المتحدة، قائلاً: «لم يعد هناك شرطي عالمي». ويعتقد هيث أن الهيئات الدولية أصبحت غير فعالة أو فاسدة أو أسيرة، فيما «يدمر الاتحاد الأوروبي اقتصاداته ومجتمعاته» ويسخر الجنوب العالمي من الغرب بما في ذلك «سذاجة دونالد ترامب».
ووفق تحليل هيث، فإن الولايات المتحدة لم تعد غنية أو قوية أو قادرة بما يكفي للحفاظ على السلام، ولن ترغب في ذلك حتى لو استطاعت، يقول: إن سنوات من الاستهلاك المفرط والإسراف ونقص الإنتاج جعلت الولايات المتحدة تعتمد بشكل كبير على تدفقات الأموال التي تأتي مع قيود جيوسياسية. ويضيف إن مديونية الولايات المتحدة المفرطة والتزاماتها غير الممولة هي نقطة ضعفها، كما لم يعد ناخبو ترامب يريدون أن يكونوا وقوداً للمدافع في حروب خارجية أبدية.
ويشير هيث إلى أن مشروع ترامب هو في الأساس تراجع دفاعي، مقترن بنسخة ترغب بهيمنة على الأمريكيتين (بما في ذلك بنما وكندا وغرينلاند). ويقول: يريد (ترامب) أيضاً منع سيطرة الصين على المحيط الهادئ. إنه غير مهتم حقًا بأي شيء آخر، ولهذا السبب كان حريصاً جداً على تصديق أكاذيب بوتين والإيرانيين والحوثيين، وفق هيث الذي يضيف: «مع قيام الأوروبيين بإهدار مكاسب السلام على مدار الثلاثين عاماً الماضية، انتهى بنا الأمر إلى تحالف غربي زائف متشرذم …».
ويشير هيث إلى “انفجار الثروة في دول الجنوب العالمي بعد تبنيها نماذج من الرأسمالية من دون أن يؤدي ذلك إلى «تغريب مجتمعاتها الذي توقعه جميع الليبراليين تقريباً».
ووفق هيث، كان من المفترض أن يجعل الرخاء والإنترنت الحروب والحكم الاستبدادي أمراً لا يُصدق. لكن الأمور لم تسر على هذا النحو، فالصين لم تتبنَ الديمقراطية والحريات الفردية، بل سخّرت ثروتها لتصبح ثاني أقوى قوة عسكرية في العالم، وحوّلتها تقنياتها إلى دولة مراقبة شرسة، بحسب هيث الذي تحدث أيضاً عن دحض نظرية «الأقواس الذهبية» لتوماس فريدمان لمنع الصراعات، والتي افترضت أن دولتين لديهما مطعم ماكدونالدز لن تخوضا حرباً أبداً.
ويرفض الكاتب اتهامات بأن الغرب وحده هو التوسعي أو العنصري، مستشهداً بأن روسيا تريد أوكرانيا، والصين تريد تايوان، وإيران تريد السيطرة على الشرق الأوسط، على حد تعبيره.. ويقول: «يزداد توازن القوى تعقيداً مع صعود الحرب غير المتكافئة، فالطائرات المسيّرة تحديداً قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بدول يُفترض أنها الأقوى، وتسوي ساحة اللعب، وتزيد من زعزعة استقرار العالم» وفق هيث.
ويعتقد هيث أنها مسألة وقت فقط قبل أن تتسبب طائرة مسيّرة في حدثٍ بحجم اغتيال ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر الأرشيدوق فرانز فرديناند عام 1914، والذي كان سبباً في اندلاع الحرب العالمية الأولى.