الحرية- لبنى شاكر:
تتماهى حكاية لافتات مدينة كفرنبل مع مصير أبنائها، فبعد طول موتٍ وتهجيرٍ وانتظار، وصلت أخيراً إلى محطة الحجاز في دمشق، في معرضٍ تُقيمه مجموعة من منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع وحدة دعم المجالس المحلية LACU، وهي الجهة المعنية بأرشفة اللافتات الشهيرة صاحبة المحتوى النقدي الساخر، والتي يعدّها البعض نقطة علامٍ في مشوار الثورة ضد نظام الأسد. لكن ما لا يعرفه من يتناقلون اليوم كلماتها ورسومها بعيدة الأثر، أنّ كتّابها دفعوا حياتهم ثمناً لها، وفي مقدمتهم رائد الفارس عرّاب اللافتات الجريئة، وحمود جنيد المصور الصحفي، ورفيق دربهما خالد العيسى عضو المكتب الإعلامي.
تأتي خصوصية لافتات كفرنبل، من رسائلها وجُملها العابرة للزمان والمكان
استعادة قيم الثورة
يضم المعرض مختاراتٍ من اللوحات الأصلية التي أنتجها الحراك الثوري في كفرنبل، وهي كما تقول ساشا أيوب عضو الفريق المنظّم للفعالية، في حديثٍ لصحيفة الحرية: “جزءٌ من أرشيف كبير، استطاع أصحابه الحفاظ عليه رغم ما عانوه من قصف وتهجير ومُلاحقة”. في حين تأتي خصوصية هذه اللافتات، من رسائلها وجُملها العابرة للزمان والمكان، وهنا تكمن غاية العرض، في استعادة المقاصد والطموحات الأولى للثورة. تضيف أيوب “نريد استعادة قيم الثورة، لنتذكر دائماً لماذا خرجنا ضد نظام الاسد، وماذا كانت مطالبنا، نريد للشباب الذين كانوا أطفالاً عندما بدأت الحكاية، أن يعرفوا مبادئنا، لنبقى على الطريق الذي انطلقنا منه”.
رسام كفرنبل
يستعيد رسام كفرنبل أحمد الجلل محطاته مع اللافتات بدءاً من مظاهرات عام 2011، ويقول للحرية “كان الشهيد رائد الفارس واحداً من مجموعة شباب يرفعون لافتاتٍ قماشية، وكنت مع رفاق آخرين نرفع لافتات كرتونية، سرعان ما بدأ التنسيق بيننا ووُلِد المكتب الإعلامي في كفرنبل، ولأنني من هواة الرسم، جربت تقديم لوحة كاريكاتورية، استطاعت شد الانتباه في المظاهرة، هكذا بدأنا العمل على الرسومات لتوظيفها بما يتناسب مع الحدث والموضوع، حتى أصبحت ميزة في لافتاتنا المشغولة بحبٍّ ووعي. وكما يعرف متابعو الثورة، تفاوتت الرسومات بين البسيط والغني بالجماليات، لكنها كانت هوية بصرية لمنطقتنا، تكاملت مع العبارات المكتوبة بالعربية والإنكليزية، الموجهة للسوريين والعرب والعالم”.
يُضيف الجلل عمّا تعرض له من أخطار: “النظام استهدف كل شيء، وعدّ كلّ إنسان معارض له هدفاً للتصفية، لكن ما جعل الخطر مُضاعفاً، كانت مضامين اللافتات التي تجاوزت انتقاد الأسد وفضح جرائمه، نحو انتقاد أي ظاهرة سلبية تضر بالثورة، فنحن في كفرنبل انتقدنا الفصائل والتيارات التي كان مشروعها خارج نطاق الثورة السورية، إضافة إلى خلافنا الفكري مع العديد من القوى الإقليمية والعربية، لم نسكت عن الخطأ، وهذا جعلنا في موقع استهداف من مختلف الجهات، التي كنّا في مناطق سيطرتها أصلاً، وفي النتيجة دفعنا دماً، واستُشهد رفاقنا”.
وصلت لافتات كفرنبل إلى العالم، وعُرِضت في أمريكا وأوروبا، لكن دمشق كانت أبعد منها جميعها
انتصار الفكر
ويرى رسام كفرنبل إنّ العرض في دمشق بعد أشهر على هروب الأسد، تأكيد على انتصار الثورة عسكرياً بعد تضحيات لا حصر لها، وصراع مرير يعرفه العالم، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الإنجاز، وعلى حدّ تعبيره “لطالما قلنا في شعاراتنا ولافتاتنا، إنّ القضية ليست في الأشخاص، وليست في الإطاحة بالأسد لذاته، بل هي في رفض الاستبداد والاستئثار، أردنا فكر الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة، ومازلنا نريد تداول السلطة والمؤسسات، ومن ثم فالثورة لا تعني انتصار السلاح فقط، بل انتصار الفكر. ولا بد من الإشارة إلى أننا لم نخترع الشعارات لأنها كانت تمثل أهداف السوريين حقيقة، لكن رائد الفارس امتلك رؤيةٍ واستشرافاً، أضافا لنا وساهما في التعبير عن روح الثورة وأخلاقها ورسالتها، وهي اليوم خريطة طريق للمستقبل، وما يجب تأكيده أيضاً هو أنّ اللافتات جاءت نتيجة تضافر جهود الثوار السوريين في الداخل والخارج، من الناحيتين اللوجستية والفكرية، وهذا ما أعطاها بعداً وطنياً شاملاً وجامعاً”.
إنقاذ اللافتات
عام 2019 ومع هجوم قوات الأسد على إدلب، خاطر عبد الله السلوم، عضو مركز كفرنبل الإعلامي وزملاؤه، وتمكنوا من سحب اللافتات قبل قصف المبنى الذي كانت فيه بساعات. يقول السلوم للحرية: “جزءٌ من اللافتات كان موجوداً في تركيا، وجزء آخر معنا في المدينة، لكن مع اقتحام الجيش، خرجنا وأخرجنا اللافتات معنا، إلى المعرة ثم سرمدا، ومنها إلى سلقين تليها عزاز، ثم سلمتها إلى وحدة دعم المجالس المحلية LACU التي تولّت موضوع الأرشفة والتوثيق، وهي اليوم في عهدتها بالشراكة مع منظمة اتحاد المكتب الثورية التابعة للمكتب الإعلامي في كفرنبل، والتي أسسها الشهيد الفارس”.
ملكٌ للثورة
حافظ السلوم على اللافتات ما بين 2012 حتى 2023، وفي رحلة النزوح المتتابع، حمل معه نحو 600 لافتة، حرص عليها بشدة، واهتم بتخزينها في مكان مناسب، رغم أن الأماكن التي أقام فيها، لم تكن تتسع لأفراد أسرته، حتى لقّبه الشهيد الفارس بالتمساح لعناده وإصراره على أنّ اللافتات ملٌك للثورة، ولن تكون لغيرها. يقول للحرية: “العرض في دمشق كان حلماً، لافتات كفرنبل وصلت إلى العالم، عُرِضت في أمريكا وأوروبا، لكن دمشق كانت أبعد منها جميعها، ولا أدل على هذا مما فوجئنا به، من أن اللافتات التي كانت موجهة لسكان مناطق سيطرة النظام، لم تصلهم أبداً ولم يسمعوا عنها، بسبب القبضة الأمنية المشددة، والبعض منهم كان يظن أن إدلب بؤرة إرهاب، لم يعرفوا الثورة في جوهرها، ولهذا لا كلمات تعبر عن معرض لافتات كفرنبل الثورية”.
يستمر المعرض حتى الثالث من حزيران المقبل، يومياً من الساعة 12 ظهراً حتى 7 مساءً، في محطة الحجاز.