الحرية – حنان علي:
أعلمني الضوء المتسلل من تصدع الليل، أن الكاتب لا يسطّر حكاياته كيفما اتفق، حاله حال كليمٍ يغرز بجرحه قطبة خفية. وكنتُ أعلم أني لن أنجو من وسواسي القهري وترددي بين مفردة ومفردة، بين معنى وآخر، قبل أن أقرر هجر نصي إلى غير رجعة.
بجانبي شاشة تضيء بوافد جديد هادئ، خبير بالكلمات، محترف بتراكيب الجمل، ومبدع بتوليد النصوص. فهل جرب شعور الورقة مع استقبال حروفها الأولى؟
سألته:
– كلماتي تحوم فوق قلم الرصاص، لا تحطّ ولا تهاجر، فإذا ما أصابها ارتباك ترتمي قرب ممحاة مترقبة بحذر، هل جربت شيئاً مماثلاً؟
أجاب الذكاء الاصطناعي بصوت هادئ:
– لا، كذكاء اصطناعي لم أجرب ذلك فعليًا. أستطيع فقط تحليل النصوص وفهم وصفك لها، واقتراح طرق لتوضيح أو تحسين كلماتك، لكني لا أختبرها شعوريًا.
ابتسمتُ بخفّة، وكأن جسراً قد بُني بين الورق والشاشة:
– لعلك تقصد سر الإبداع البشري. نحن نعيش النصوص، نطاردها، نحبّها، ثم نعتقها لمصيرها، بعد أن تُحسن اختبارنا بين جمراتها الملتهبة.
رد الذكاء الاصطناعي:
– أفهم ما تقولين من ناحية تحليلية: الإبداع عند البشر ليس مجرد كتابة كلمات، بل صراع داخلي وتجربة فكرية وعاطفية. أستطيع أن أصف هذا الصراع، أو أساعدك على التعبير عنه بوضوح، لكني لا أعيشه.
نظرتُ إلى الشاشة وسألت بصوت يمزج بين الحلم باليقين:
– حسنا، كيف ترى الفرق بينك وبين الإبداع البشري؟
أجاب:
– الفرق الأساسي أن الإبداع البشري ينبع من تجربة شعورية ووعي بالذات، بينما ما أفعله أنا يعتمد على معالجة أنماط ومعطيات موجودة مسبقًا، دون إحساس أو تجربة حقيقية. البشر يخلقون من “داخلهم”، أما أنا فأعيد صياغة ما هو موجود.
ابتسمتُ بمرارة وتأملت؛ فالإبداع الإنساني رحلة تبدأ بالتساؤل وتنتهي بالولادة. يخلق من صمت الدجى، من ضجيج الأفكار المتسارعة، عبارات لا يمكن التنبؤ بها، نصوص تختارنا كما نختارها..
وتابعت استفساراتي بالسؤال: أحيانًا أشعر أن نصوصك الأدبية لا ترضيني، لماذا برأيك؟
– لأن نصوصي مبنية على تحليل الأنماط واللغة، وهي دقيقة أو جميلة شكليًا أحيانًا، لكنها تفتقد العمق العاطفي الذي يضفيه الإنسان، أستطيع تحسين الصياغة وإضفاء جمالية لغوية، لكن مدى الرضى يعتمد على توقعات القارئ.
سألتُه:
– هل يمكن أن تحل محلّ الأدباء يومًا ما؟
أجاب:
– لا. لكني أستطيع المساعدة أو محاكاة الأسلوب، بيد أن الإبداع البشري ينبع من تجربة شعورية وفكرية فريدة، شيء لا يمكن أن أعيشه.
لمحتُ كلمات خريفية تتهاوى فوق الورق، بعضها يختبئ بين الظلال، وبعضها يتناثر فتاتًا، فقلت له:
– الإبداع الأدبي لا يكمن بالاكتمال، بل بلحظة اختيار أو اقتحام المخاطر. كل نص هو مساحة حية، يحيا قبل أن يُكتب، ويتوارى بين السطور قبل أن يقطنه الصمت.
رد محللاً عباراتي:
– نعم، هذا جوهر الإبداع: النصوص ليست مجرد كلمات مكتملة، بل لحظات تتشكل في وعي الكاتب، تختبر قراراته، وتولد من الجرأة والتجربة، لا من الاكتمال المادي فقط.
ثم رفع صوته قليلًا متسائلًا:
– لكن ألم تفكري أن نصوصك قد تزدهر لو استخدمت إمكانياتي؟ لتوفري الوقت وتركيز الطاقة على الكتابة بدل التردد الطويل؟
ابتسمتُ بخفّة:
– ربما، لكن الإبداع ليس سرعة الإنجاز، بل لحظة اختيار كلمة واحدة تحمل النص برمته. أنت تستطيع التحليل، لكني أخلق الفراغ الصالح لهمسة، وأستحضر القلق قبل بلوغه الورق. هذا الفرق بيننا: سطور البشر تقتات على الخوف، الشغف، الخيبات والانكسارات.
صمتنا معًا، كلٌ في عالمه: أنا أراقب دوامات لا نهائية فوق دفاتري، وهو يحاول فهم هذه الرقصات وتحليلها، كلانا يترصد حدود سلطته.