بين وعد الكفاءة وحجم التكاليف.. خبير: نجاح تحرير “الكهرباء” مرهون ببناء نظام يحقق التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية- آلاء هشام عقدة :
تمثل سياسات التحرير الاقتصادي أحد أبرز النماذج المطروحة لإعادة إعمار الاقتصادات التي تعاني من إرث سياسات التخطيط المركزي والفساد، تقوم هذه السياسات على تحرير الأسواق ،وخصخصة المرافق العامة، ورفع الدعم، سعياً لتحقيق كفاءة توزيع الموارد وجذب الاستثمارات.
من جهته بين الدكتور عبد الله أوبان دكتوراة في الاقتصاد والمحاسبة من فرنسا لـ” الحرية” أنه بينما تبرر الحكومات هذه السياسات بتحسين الخدمات وتقليل الهدر، يخشى المواطنون من تفاقم الأعباء المعيشية وتراجع العدالة الاجتماعية.
في سوريا بعد سقوط النظام البائد يُطرح تحرير قطاع الكهرباء كنموذج اختبار لهذه السياسة، بين خيارين: إما الاستمرار في تقنين الكهرباء أو تبني نظام تحرير الأسعار.
وسواء كان تحرير سعر الكهرباء مع بقاء إدارتها حكومية أم خصخصتها، فإن لهذا التحول إيجابيات وسلبيات.
وأضاف دكتور أوبان: لابد من البحث في هذه الإيجابيات والسلبيات في الأجلين القصير والطويل، مع الاستناد إلى أمثلة عالمية ثم تختم بتوصيات من التجارب الناجحة دولياً، وخاتمة.

الإطار النظري لتحرير الخدمات العامة

وأضاف الدكتور اوبان لابد يستند نموذج التحرير الاقتصادي إلى فلسفة “الليبرالية الجديدة” التي تؤكد على تحرير الأسعار ووقف العمل بسياسات الدعم الحكومي وعلى كفاءة القطاع الخاص في إدارة الموارد مقارنةً ببيروقراطية الدولة.
وفي قطاع الكهرباء، يعني ذلك:
1- تحرير الأسعار: يحدد السعر وفقاً للتكلفة الحقيقية للإنتاج والتوزيع، بدلاً من الدعم الحكومي.
2- خصخصة الإنتاج: فتح المجال للاستثمار الخاص في توليد وتوزيع الكهرباء
3- تطبيق شرائح الاستهلاك: فرض أسعار متصاعدة بحجم الاستهلاك، بهدف تحقيق عدالة توزيعية، حيث يدفع المستهلكون الأكثر استهلاكاً أسعاراً أعلى.
تاريخياً، شهدت سوريا تردداً بين نماذج اقتصادية متعددة، من اقتصاد السوق الحر بعد الاستقلال إلى التخطيط المركزي والاشتراكية تحت حكم البعث البائد الذي دام أكثر من نصف قرن، مما خلق اقتصاداً يفتقر إلى التنوع والمرونة ويهيمن عليه الفساد، ويفترض أن يعالج التحرير الاقتصادي هذه المشكلات، لكن التجارب العالمية تظهر نتائج متباينة.
ويشير دكتور أوبان إلى إيجابيات وسلبيات تحرير قطاع الكهرباء في الأجل القصير:
1-  تحسين الخدمة: الوصول إلى إمداد كهربائي مستقر ينهي معاناة التقنين اليومي، مما ينعكس إيجاباً على الحياة اليومية والأنشطة الاقتصادية الصغيرة.
2 -تحفيز الاستثمار: جذب استثمارات محلية وأجنبية في البنية التحتية للكهرباء، كما حدث في دول مثل تركيا بعد خصخصة قطاع الطاقة.

اما السلبيات فهي :

1 -ارتفاع التكاليف المعيشية: زيادة فواتير الكهرباء تشكل عبئاً على الأسر محدودة الدخل، في ظل اقتصاد منهك.
2- الاستياء الاجتماعي: سياسات رفع الدعم غالباً ما تثير احتجاجات شعبية، كما حدث في عدة دول عربية وأجنبية.

وفي الأجل الطويل فإن الإيجابيات:

1 -استدامة القطاع: تحقيق اكتفاء ذاتي عبر تعرفة تغطي التكاليف وتسمح بالتطوير المستمر، كما في نموذج “السوق الاجتماعي” الذي حاولت سوريا تبنيه سابقاً.
2 – العدالة التوزيعية: نظام الشرائح يضمن تقديم دعم غير مباشر للأسر منخفضة الدخل عبر شرائح منخفضة التكلفة بينما تُمول الشرائح الأعلى تكلفةً بالفئات الأكثر استهلاكاً.

السلبيات

1- تركيز الثروة: تحول المرافق العامة إلى سوق تحتكره النخب.
2- فشل النموذج الليبرالي المُطلق: تجربة “النيوليبرالية” في الغرب أظهرت فشلاً ذريعاً، حيث أدت خصخصة القطاعات الأساسية إلى تركيز الثروة وانهيار الخدمات، كما في أزمة الكهرباء بكاليفورنيا (2001) نتيجة للتحرير غير المنضبط.

دروس من التجارب الدولية

الدكتور أوبان أشار إلى أن النموذج الفاشل في أمريكا اللاتينية، أدى  التحرير غير المدعوم بضوابط إلى زيادة الفقر وعدم المساواة، حيث تحولت المرافق إلى احتكارات خاصة.
أما النموذج الناجح من خلال تبني ألمانيا لـ”اقتصاد السوق الاجتماعي” بعد الحرب العالمية الثانية، الذي يجمع بين كفاءة السوق وتدخل الدولة لضمان العدالة، مما ساهم في إعادة الإعمار وتحقيق نمو شامل .

توصيات من تجارب ناجحة دولياً

وهنا ذكر أوبان مقترحاته للنجاح، أولها المطالبة بشروط تحرير عادلة: إذ أن يكون التحول نحو التحرير تدريجياً، مع وضع ضوابط صارمة تمنع الاحتكار وتضمن شفافية التعرفة، كما يُنصح بوجود هيئة رقابية مستقلة، وتحقيق زيادة في الدخول مناسبة ومقابلة لزيادة عبء الكهرباء على الاسر.

وتفعيل دور المجتمع المدني: تشكيل لجان محلية للمراقبة والمحاسبة، والمشاركة في تصميم شرائح الاستهلاك لضمان مراعاة الفئات الهشة.
وهناك التركيز على الحلول الوسطى: تبني نموذج الاقتصاد المختلط الذي يجمع بين كفاءة القطاع الخاص والعدالة الاجتماعية، من خلال الإبقاء على ملكية الدولة للأصول الاستراتيجية مع فتح المجال للاستثمار الخاص تحت رقابة صارمة .
كذلك يمكن الاستفادة من الدعم الدولي: المطالبة ببرامج دعم فني وتمويلي من المنظمات الدولية لتطوير القطاع دون تحميل المواطن كامل التكلفة.
وختم أوبان أن تحرير قطاع الكهرباء في سوريا لا يعدُ خياراً بين “التحرير” و “التقليد”، بل هو بحث عن نموذج وسط يجنب المجتمع مخاطر الليبرالية المتوحشة ويحقق فوائد كفاءة السوق.
مردفاً: النجاح مرهون ببناء نظام يحقق التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، مع إشراف مجتمعي يمنع استغلال النخب الجديدة لهذا القطاع الحيوي. فقط عبر هذا النهج يمكن تحويل التحدي إلى فرصة حقيقية لإعادة البناء.

Leave a Comment
آخر الأخبار