الحرية _رفاه نيوف :
شهد الاقتصاد السوري خلال الأعوام الماضية اختلالات عميقة في بنيته النقدية، تمثلت في تراجع الاستقرار المالي، وتآكل ملحوظ في القوة الشرائية، وارتفاع معدلات التضخم، إلى جانب تقلبات حادة في سعر الصرف وتزايد استخدام العملات الأجنبية في التعاملات اليومية.
وفي ظل هذه الظروف، تبرز السياسة النقدية كأداة محورية لإدارة الأزمات الاقتصادية، لما لها من تأثير مباشر في مستويات الأسعار والاستقرار المالي والثقة بالعملة الوطنية، كما يؤكد الدكتور جوليان بدور الباحث والأكاديمي في جامعة ريونيون الفرنسية ل ” الحرية”.
وفي سياق التحولات الاقتصادية الراهنة يأتي طُرح خيار استبدال العملة كأحد المسارات المحتملة ضمن عملية الإصلاح النقدي والمالي، الأمر الذي فتح بابًا واسعًا للنقاش حول دوافع هذا الإجراء وآلياته وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية.
الإطار النظري لاستبدال العملة
الدكتور جوليان أوضح أن المقصود باستبدال العملة سحب النقد المتداول وإحلال إصدار جديد محله، سواء عبر تغيير الشكل أو الفئات والقيم الاسمية، أو من خلال إعادة تنظيم شاملة للنظام النقدي. وقد يتم هذا الإجراء بصورة شاملة أو مرحلية، ضمن إطار قانوني ومؤسسي واضح.
العملة الجديدة، لن تكون حلًا سحريًا للأزمة بل أداة ضمن حزمة أوسع من السياسات تشمل مكافحة الفساد
ونظريًا تسعى عملية استبدال العملة إلى تحقيق جملة من الأهداف، أبرزها:
تقليص حجم الكتلة النقدية المتداولة خارج الإطار المصرفي.، والحد من توسّع الاقتصاد غير الرسمي والأنشطة غير القانونية المرتبطة بالتداول النقدي، للعملة، وتحديث البنية المالية وتعزيز الاعتماد على وسائل الدفع الإلكترونية الأكثر شفافية، وخفض تكاليف العدّ والتخزين، وتحسين الصورة الذهنية للعملة.
غير أن تحقيق هذه الأهداف يبقى مرهونًا بتكامل الإجراء مع سياسات اقتصادية وإصلاحات مؤسساتية أوسع، تتجاوز مجرد تغيير العملة. و إن توقيت وآلية استبدال العملة وفقًا لتصريحات حاكم مصرف سوريا المركزي الدكتور عبد القادر الحصرية، من المقرر أن تبدأ عملية استبدال العملة السورية القديمة بالإصدار الجديد في الأول من كانون الثاني 2026، ويمنح المرسوم الرئاسي رقم 293 لعام 2025 المصرف المركزي صلاحية تحديد المهل الزمنية ومراكز الاستبدال دون تحديد مدة نهائية ثابتة ، و تبدأ العملية بفترة أولية تمتد لثلاثة أشهر قابلة للتمديد، ويتم التنفيذ عبر 66 شركة ونحو ألف منفذ موزعة على مختلف المحافظات، مع التأكيد على الشفافية والتعاون المجتمعي، وتشمل العملة الجديدة ست فئات: 5، 10، 50، 100، و500 ليرة جديدة.

خصائص البيئة النقدية والاقتصادية
يبن د. بدور أن البيئة الاقتصادية والنقدية السورية تتسم بعدد من السمات البنيوية التي ستؤثر بشكل مباشر في نتائج عملية الاستبدال، من أهمها: تعدد أسعار الصرف ووجود سوق موازية فاعلة.و أن الدوافع المحتملة لاستبدال العملة ضبط التضخم وإدارة السيولة. يُفترض أن يسهم تقليص الكتلة النقدية وتنظيم تداولها في تخفيف الضغوط التضخمية، غير أن هذا الأثر سيظل محدودًا ما لم يُدعَم بسياسات مالية منضبطة وإدارة فعّالة للعجز والإنفاق العام.
إدماج الأموال المكتنزة في النظام المصرفي
كما أشار الباحث الاقتصادي بدور إلى سعي عملية الاستبدال إلى تشجيع الأفراد على إيداع مدخراتهم في المصارف، بما يعزز قدرة الجهاز المصرفي على التمويل والإقراض، إلا أن نجاح ذلك يتوقف على مستوى الثقة العامة بالبنوك وضمان سلامة الودائع. وقد يساهم إلزام حاملي السيولة بتوضيح مصادر أموالهم في مكافحة الفساد والتهريب، شريطة وجود أطر قانونية عادلة تميّز بوضوح بين الأموال غير المشروعة والمدخرات القانونية للأسر.
المخاطر والتحديات
قد يرافق هذا الإجراء كما يؤكد د. بدور مخاطر وتحديات ومنها تهديد المدخرات الفردية، فقد يؤدي فرض سقوف أو آجال زمنية ضيقة للاستبدال إلى الإضرار بمدخرات بعض الفئات، ولا سيما من لا يمتلكون حسابات مصرفية، و احتمالات ارتفاع الأسعار في حال غياب الرقابة والسياسات الإنتاجية، قد يستغل بعض التجار والوسطاء الظرف لرفع الأسعار، ما يزيد العبء على أصحاب الدخل المحدود.
كما أن توسّع السوق غير الرسمية أي نقص في الشفافية قد يدفع الأفراد إلى اللجوء إلى الدولرة أو اكتناز الذهب، الأمر الذي يضعف الثقة بالعملة الجديدة منذ انطلاقتها.
شروط النجاح في الحالة السورية
و استنادًا إلى التجارب التاريخية والدراسات المتخصصة، يمكن تحديد مجموعة من الشروط الأساسية لنجاح عملية الاستبدال وفق ما أوضح بدور منها :
عقد لقاءات دورية مع الفعاليات الاقتصادية والمهنية والمجتمعية لتأكيد أن الهدف حماية حقوق المواطنين وتعزيز الثقة بالعملة الوطنية، وضوح الإطار القانوني وإطلاق حملة إعلامية توعوية شاملة قبل التنفيذ.
تقديم ضمانات صريحة وشفافة لحماية حقوق المودعين وعدم المساس بالمدخرات المشروعة، و إتاحة فترة زمنية كافية لعمليات الاستبدال في المدن والأرياف ، و تعزيز استقلالية السياسة النقدية وتقليص التمويل بالعجز ، مع تطوير البنية المصرفية والرقمية لتسهيل وسائل الدفع الإلكتروني ، و حماية الفئات محدودة الدخل عبر الدعم المباشر ، و تنفيذ إصلاحات مالية وإنتاجية مكمّلة.
الخاتمة
وختم د. بدور حديثه قائلاً : يمثل استبدال العملة في سوريا إجراءً بالغ الحساسية، يتجاوز كونه عملية فنية ليشكّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على تنفيذ إصلاحات هيكلية شاملة على المستويات الاقتصادية والمالية والمؤسساتية، وصياغة رؤية تنموية وطنية طال انتظارها فالعملة الجديدة، لن تكون حلًا سحريًا للأزمة، بل أداة ضمن حزمة أوسع من السياسات تشمل مكافحة الفساد، ودعم الإنتاج الزراعي والصناعي، وحماية الفئات الأكثر هشاشة.
وعليه، فإن نجاح هذا الإجراء يبقى مرهونًا بتوافر إرادة مؤسسية حقيقية لبناء اقتصاد أكثر استقرارًا وشفافية، وبقدرة الدولة على تحقيق السلم الأهلي وبيئة سياسية وأمنية مطمئنة، تؤكد للمجتمع أن الهدف هو تنشيط الاقتصاد الوطني وخدمة المصلحة العامة، لا مجرد تغيير شكل الأوراق النقدية.