الحرية ـ بقلم يسرى المصري:
من سمع ليس كمن رأى ..شبح العقوبات الثقيل بدأ ينزاح عن صدور السوريين بعد معاناة من العزلة والتدهور الاقتصادي واختناق اجتماعي.. وأخيراً وجدت البلاد من يعيد بناءها بصدق وثقة ويبدّد ظلامها ويفتح الأبواب والنوافذ لإدخال النور والسرور للسوريين.. كانت الجهود كبيرة حتى تم ردم الفجوة.. سوريا هذه الأيام تمر بمنعطف تاريخي حاسم مع اقتراب إلغاء “قانون قيصر” بشكل كامل، أحد أشد أنظمة العقوبات الاقتصادية والمالية شمولاً المفروضة على دولة في العصر الحديث. هذا القرار بالإلغاء، الذي تبناه مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة (312 صوتاً مقابل 112) يوم 11 كانون الأول 2025، ويتجه للمصادقة النهائية في مجلس الشيوخ، يمثل أكثر من مجرد تغيير في السياسة الأمريكية؛ إنه تحول جيوسياسي عميق يفتح باباً واسعاً لإعادة دمج سوريا في الاقتصاد العالمي، بعد سنوات من العزلة والتدهور الاقتصادي المدمر.
تأتي هذه الخطوة تتويجاً لجهد دبلوماسي سوري مكثّف، وتعاون إقليمي مميز شمل جهوداً سعودية وتركية حاسمة، بالإضافة إلى دور فعّال للجالية السورية في الولايات المتحدة، في إطار ما يُعرف بـ”الجهد التشاركي العربي- التركي”. ففي مايو 2025، أعلن الرئيس الأمريكي عزمه رفع العقوبات بعد لقاء ثلاثي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ما مهد الطريق سياسياً لهذا التحوّل. وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني وصف القرار بأنه “انتصار للحق ولصمود السوريين، وتجسيد لنجاح الدبلوماسية السورية”. يهدف هذا التحليل إلى تسليط الضوء على الأبعاد المتعددة لهذا الحدث: تأثيره المباشر والمحتمل على الاقتصاد الكلي والسياسة النقدية، واستعراض الفرص الهائلة والتحديات الجسيمة التي ينطوي عليها، وأخيراً تقديم رؤية لكيفية تحويل هذه اللحظة التاريخية إلى تحسن ملموس في الواقع الاقتصادي والمعيشي للمواطن السوري. حيث من المتوقع أن تتدفق آثاره على عدة مستويات نجد أشدها وضوحاً على السياسة النقدية واستقرار سعر الصرف ويُعدّ هذا الجانب الأكثر حساسية للمواطن العادي. العقوبات حرمت البنك المركزي السوري من الوصول إلى النظام المالي العالمي وعززت الاقتصاد الموازي، ما أفقد السلطات النقدية السيطرة على سعر صرف الليرة وأدى لتقلباتها الحادة. إذ يرى الخبراء أن رفع العقوبات سيمكن البنك المركزي مستقبلاً من تسهيل حصول البنك المركزي مستقبلاً على القطع الأجنبي وبكميات أكبر، وبالتالي رفع قدرته على التحكم بسعر الليرة وتثبيت هذا السعر، ويعتبر المحللون الاقتصاديون أن رفع العقوبات يُمهّد الطريق نحو إعادة الانفتاح الاقتصادي، مشيراً إلى إمكانية “الإيداعات بالدولار في البنك المركزي” كأحد أشكال الدعم الدولي الممكنة، ما يدعم العملة المحلية ويخفف الضغوط التضخمية على المدى المتوسط. أضف إلى ذلك أن رفع العقوبات يضمن تحسناً مباشراً في مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل استقرار الليرة، رغم أن التحديات الهيكلية العميقة قد تحتاج إلى حلول تتجاوز مجرد رفع القيود القانونية.
كما يفتح إلغاء قانون “قيصر” الباب أمام تحديث القاعدة الإنتاجية من خلال استيراد المعدات والتقنيات الحديثة، ما يرفع القدرة الإنتاجية المحلية ويحسن الجودة. ويبشر بانفتاح التجارة الدولية وتأمين السلع، فقد شكلت العقوبات حاجزاً رئيسياً أمام استيراد السلع الأساسية والمواد الخام والتجهيزات الصناعية، وبزوال هذا الحاجز يصبح بالإمكان استيرادها، بعد أن كانت سابقاً محظورة، وفي حال وجودها في السوق السورية، فتكون مرتفعة السعر. هذا يعني زيادة المعروض من السلع والمواد، وبالتالي تخفيف حدة الندرة والضغوط التضخمية.
“قانون قيصر” كان العائق الأكبر أمام جذب الاستثمار الأجنبي والمباشر وتدفق الاستثمارات الخارجية، سواء من دول الخليج أو الاتحاد الأوروبي أو الشركات الدولية. ويأتي إلغاؤه ليرسل إشارة واضحة للمستثمرين العالميين ببدء مرحلة جديدة. وهذا المحور هو “من أهم التأثيرات الإيجابية”، حيث سينعكس على “ضخ الأموال وإعادة الإعمار، وتشغيل اليد العاملة، وبالتالي انخفاض نسب البطالة وارتفاع معدلات التشغيل، وهي بالضرورة تؤدي إلى تحسين الأجور”.
كما أشار الكاتب السوري علي عيد إلى بدء دخول شركات أمريكية كبرى مثل “شيڤرون” لاستطلاع الفرص في سوريا، ما يشير إلى تحوّل تاريخي في العلاقة الاقتصادية مع واشنطن من حالة الصراع إلى ” الشراكة”.
أمام مرأى السوريين يلوح مشهد مليء بالفرص الواعدة، ويتيح المجال لإصلاحات هيكلية عميقة، ومع التنفيذ العملي لإعادة الإعمار ولاسيما في البنى التحتية يصبح المجال سالكاً لإمكانية ضخ مليارات الدولارات في مشاريع إعادة إعمار المرافق العامة والبنية التحتية المدمرة، ما يوفر آلاف فرص العمل ويحسن الخدمات الأساسية للمواطنين.
أضف الى ذلك تنشيط القطاعات الإنتاجية وإحياء الصناعة والزراعة والطاقة من خلال تسهيل الاستيراد وتمويل المشاريع. لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تُعد الركيزة الأساسية لأي عملية تنمية اقتصادية واجتماعية.
ويسهل الاندماج الإقليمي وتعزيز التعاون الاقتصادي مع الدول العربية المجاورة، ولا سيما في إطار منظمة “أوابك” التي عادت سوريا لمشاركتها مؤخراً، ما يعزز التعاون في قطاعي الطاقة والتجارة.
وعلى الصعيد الداخلي ينعكس على تحسين الكفاءة المؤسسية وإدخال التقنيات الحديثة في القطاع المالي والإداري، وإعادة تأهيل الكوادر البشرية الموجودة في سوريا، وزيادة خبراتها.
ويبقى العامل الحاسم لإلغاء قيصر هو دعم الثقة داخلياً وخارجياً وإدارة الموارد، حيث يحتاج المستثمرون والداعمون إلى بيئة مستقرة، ومؤسسات قادرة على تنفيذ المشروعات، وإجراءات شفافة لضمان توظيف الأموال بفاعلية. ودعم إجراءات الشفافية والحوكمة الذي يحقق الفوائد المرجوة.
وحول التوقعات الزمنية الواقعية يؤكد الخبراء الاقتصاديون أن ظهور النتائج الاقتصادية على الأرض سيحتاج إلى بعض الوقت. فالتحسن لن يكون سحرياً أو فورياً، وهو ما يتطلب صبراً من المواطنين وإدارة واقعية من الحكومة لتحويل هذه الفرصة التاريخية إلى تحسن معيشي ملموس، ويجب تبني مقاربة استراتيجية شاملة تركز على الاستقرار النقدي وبناء الثقة فتكون الأولوية القصوى تثبيت سعر صرف الليرة السورية من خلال ضخ سيولة أجنبية حقيقية إلى البنك المركزي ودعم الاحتياطيات.
أضف إلى ذلك ربط الدعم الدولي بمشاريع إنتاجية ملموسة تعود بالنفع المباشر على الأسواق والمواطنين، مثل مشاريع الطاقة والمياه والقطاع الصحي والزراعي، بدلاً من تحويله إلى دعم استهلاكي مؤقت.
والتركيز على القطاعات المُولدة للوظائف وتوجيه الاستثمارات أولاً إلى القطاعات القادرة على استيعاب الأيدي العاملة بشكل سريع وكبير، كالبناء والزراعة والصناعات التحويلية الخفيفة. وبرامج التشغيل العامة المؤقتة يمكن أن تكون جسراً نحو فرص عمل دائمة.
وذلك بالتوازي مع إصلاحات مؤسسية تواكب التدفق المالي وإدارة حكومية فعّالة، وإصلاحات مالية وإدارية، وتعزيز الإنتاج المحلي. بالتوازي أيضاً مع إصلاحات في القطاع المصرفي، ومكافحة الفساد، وتبسيط إجراءات الاستثمار، لخلق بيئة جاذبة وحامية لرأس المال.
ولاشك أن استعادة ثقة السوريين والمجتمع الدولي، تتطلب أن تكون جميع عقود الاستثمار والمشاريع الكبرى علنية وشفافة، مع وجود آليات رقابة مستقلة ومحاسبة حقيقية تضمن وصول المنفعة إلى الشعب.
ان إلغاء “قانون قيصر” هو بداية طريق طويل نحو التعافي. ويمثل فرصة تاريخية غير مسبوقة لوقف النزيف الاقتصادي ووضع سوريا على مسار إعادة الإعمار. إن القرار الأمريكي ليس منفعة اقتصادية فحسب، بل إن الاقتصاد عصب السياسة والسلم الأهلي والمواطنة والوحدة الوطنية. وإن النجاح في تحويل هذه الفرصة إلى واقع معيشي أفضل للمواطن السوري بات يشق طريقه لبناء اقتصاد منتج ومستقر، قادر على توفير الكرامة والفرص لجميع السوريين.