الحرية – مها سلطان:
لأن العقوبات المفروضة على سوريا/أميركياً وأوروبياً/ هي اقتصادية فمن الطبيعي أن يكون كل حديث عنها هو حديث اقتصادي، والأمر نفسه بالنسبة إلى رفعها، حيث يتم التركيز على التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، ولكن هل أن الحديث حديث اقتصاد فقط وهل كان الهدف من فرضها اقتصادياً فقط، أم هو اقتصادي بامتدادات سياسية؟
في مسألة رفع العقوبات عن سوريا لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، وإذا ما افترضنا أن التضييق الاقتصادي هدفه تحصيل مواقف سياسية، لكونها تستهدف أنظمة سياسية، فإن الفوائد السياسية تكون حاضرة إلى جانب الفوائد الاقتصادية في حال تم رفع هذه العقوبات.
وبالعموم تعتبر العقوبات المفروضة على سوريا، الأشد من حيث اتساعها وتداعياتها الكارثية، سياسياً واقتصادياً، لذلك فإن الحديث عن الفوائد والمكتسبات يكون بالحجم ذاته، وبما يجعل سوريا اليوم قِبلة استثمارية إقليمية/دولية، إلى جانب انفتاح سياسي مركزي في محيطها، ولا ننسى هنا أن الانفتاح السياسي لسوريا الجديدة هو من قاد مسار رفع العقوبات. لقد أجادت القيادة السورية في تحقيق حالة استقطاب سياسي أوروبي أولاً، أميركي ثانياً، باتجاه الوصول إلى إنجاز رفع العقوبات، مستفيدة في ذلك من محيط عربي مساند وداعم ومساهم، وهذه نقطة ثانية تُحسب لها.
– مساران منفصلان متصلان
النقطة الأهم في مسألة رفع العقوبات تتمثل في مسارين: الأول سوري، والثاني عربي/إقليمي، وهما منفصلان متصلان في آن. حيث إن رفع العقوبات وإن كان يختص بسوريا إلا أن تداعياته كفوائد ومكتسبات تشمل الجميع في المنطقة وبامتدادات دولية، فإذا ما اعتبرنا أن المنطقة جزء أساسي من خريطة الممرات والمعابر التجارية (وخطوط الطاقة) فإن رفع العقوبات عن سوريا يتخذ أهمية عالمية، ولذلك كان هناك ترحيب واسع. صحيح أن العقوبات المفروضة على سوريا امتدت لنحو خمسة عقود إلا أن قرار رفعها بعد نحو ستة أشهر على سقوط النظام البائد، وهذا زمن قياسي.. يشير إلى أمرين مهمين: الأول يتمثل فيما ذكرناه سابقاً حول إجادة القيادة السورية لمسار سياسي عربي/ دولي (أميركي تحديداً) كان محل اهتمام وإعجاب، حيث استطاع لفت الانتباه وفتح نافذة توسعت تدريجياً باتجاه اقتناع دولي برفع العقوبات. وكان العامل الأهم في تسريع قرار رفع العقوبات – سواء أميركياً أو أوروبياً – هو الثقل العربي خلفه وتدعيمه سياسياً ربطاً بحصاد اقتصادي تكون سوريا أحد مرتكزاته الأساسية.
أما الأمر الثاني فيتعلق بالأميركيين والأوروبيين أنفسهم، وحسابات الربح والخسارة، فاستمرار العقوبات على سوريا يضر بمصالح الجميع، لقد استمرت سوريا لعقود حجر عثرة في طريق التنمية التي كان من المفترض أن تتحقق لدول المنطقة، وانعكاسها تالياً على شراكات اقتصادية عالمية كان من المفترض أن تكون سوريا في القلب منها، وليس على هامشها، لكن الوقت لم يَفُت بعد، وما زال بالإمكان أن تتحول سوريا نقطة جذب عالمية لأهم وأضخم الاستثمارات عربياً ودولياً، بما في ذلك الأميركيون والأوروبيون. اليوم بعد رفع العقوبات الأوروبية، بعد الأميركية، تبدو سوريا وكأنها أجرت إعادة تموضع جديد سياسياً واقتصادياً.
– التزامن المحسوب
لا يفترق قرار الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات عن سوريا، عن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عنها، صحيح أن الاتحاد الأوروبي كان صاحب المبادرة والتحرك، ووضع خريطة طريق لرفع العقوبات تدريجياً على خلفية اتصالات مكثفة ومستمرة مع المسؤولين السوريين (فيما بدا الموقف الأميركي متردداً في ظاهره) إلا أن قرار ترامب عَمِل على حسم الموقف الأوروبي باتجاه رفع كامل للعقوبات.
التزامن المتعمد والمحسوب بين أميركا وأوروبا في رفع العقوبات عن سوريا لا يحتاج لتأكيدات وبراهين، فهو يدلل على مسار التنسيق القائم بين الطرفين خلف الكواليس، والمستمر بطبيعة الحال، لكن الأهم أن هذا التزامن والتنسيق يعني أن هناك توافقاً بين الجانبين على شكل مشترك من التعامل والتعاون مع سوريا، وأن المرحلة المقبلة ستشهد ما يثبت هذه النقطة.
– لنوضح أكثر
إضافة إلى ما سبق، ماذا يعني أيضاً رفع العقوبات الأوروبية (بعد الأميركية) من الناحية السياسية؟
– ترجمة الاعتراف الرسمي بسوريا الجديدة وقيادتها، إلى اعتراف عملي قائم على سياقات سياسية دبلوماسية هي بمنزلة خطوط/قواعد عمل رئيسية، وهذا من شأنه نقل سوريا من حالة عزلة إلى حالة انخراط كامل إقليمياً ودولياً، ما يؤثر مباشرة على شكل العملية السياسية ضمن توازن القوى القائم في المنطقة بامتداده الدولي، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية شكل وحجم الاستثمار السياسي والاقتصادي الذي يمكن أن يكون قائماً في المرحلة المقبلة.
– رفع العقوبات هو انعكاس لحالة من التعاون الدولي بخصوص سوريا، وتكريس لجدية الرهان على سوريا الجديدة وعلى قيادتها، وتأكيد على رغبة دولية متكاملة لمساعدة سوريا على أسس سياسية واقتصادية قوية.
– الانتقال من مرحلة الاحتواء إلى مرحلة الاستثمار (من قبل الغرب) حيث إنه بقدر ما تمنح عملية رفع العقوبات عن سوريا (فرصة لبداية عظيمة حسب ترامب) فإنه بالمقابل يمنح الغرب فرصة موازية، بل أكبر، لتكون سوريا فرصته الاستثمارية الأهم في المرحلة المقبلة. ولا يخفى أن الدول والشركات الأوروبية لطالما نظرت إلى سورية باعتبارها فرصة استثمارية (وسوقاً تنافسية). ويعترف المسؤولون الأوروبيون بأن سوريا تشكل حجر أساس للاستقرار في المنطقة، ويؤكدون أن رفع العقوبات ليس مرده فقط إلى زوال أسبابها، سواء بسقوط النظام السابق أو بمرحلة الانتظار والتقييم التي سادت ما بعد السقوط (تجاه القيادة السورية الجديدة) بل لأن سورية (والسوريين) تستحق فرصة، وهذه الفرصة واعدة، ومن دونها فإن شبح الفوضى والاقتتال سيعود مجدداً. بالتوازي لا يخفون ارتياحهم لسقوط النظام، ثم لمجمل التطورات في سوريا وسياساتها الجديدة. برأيهم سوريا عادت لتكون عمقاً استراتيجياً لأوروبا بعيداً عن سياسات المحاور وتداعياتها الكارثية.
– ما هي العقوبات التي رُفعت؟
يشار إلى أن العقوبات الأوروبية، التي لن يتم تجديدها، تتعلق برفع الحظر المفروض على استيراد النفط السوري الخام، ورفع الحظر عن المصارف السورية وأهمها مصرف سوريا المركزي بعد أن يتم السماح بعمليات التعامل المالي بين المصارف في الجانبين. كما سيصار إلى رفع الحظر عن الاستثمار من قبل الشركات الأوروبية التي سيسمح لها بالاستثمار في قطاعات الطاقة من غاز وكهرباء وبنى تحتية. كذلك سيتم رفع الحظر عن تصدير السلع الفاخرة إلى سوريا وأهمها السيارات والمجوهرات والأمور الكمالية الأخرى، فضلاً عن رفع الحظر عن العديد من التفاصيل المتعلقة بالنقل في سوريا من قبيل السماح لشركات الطيران السورية باستخدام المعدات التكنولوجية الأوروبية، والسماح كذلك برفع الحظر عن الشحن البري والبحري الأمر الذي سيسمح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل أكبر إلى السوريين خلال المرحلة المقبلة.