الحرية – بديع صنيج:
كل ما يحيط بنا -نحن السوريين- من مآزق وجودية، نتيجة ما كنا تعرَّضنا له من خذلانات الواقع، وضغوطات المعيشة، وعبثية الحياة، وما تفرضه على الكائن من عزلة إجبارية، لذا بات كل منا يُشعر بأنه بات أشبه بفأر (كافكا) لا سبيل لديه في ظل جميع الجدران التي تُحاصره، إلا الإصغاء إلى نصيحة القط بتغيير اتجاهه، وما إن يفعلها حتى يلتهمه، لكن يبقى هناك من يفتح ثغرة في الجدار سامحاً للإنسان السوري بأن يَتَنَسَّمَ قليلاً من الهدوء والسكينة.
بيع الفطائر
ومن تلك الأمور التي خَبِرْتُها بشكل شخصي: محل لبيع الفطائر بالقرب من القصر العدلي بدمشق، وضع لافتة على الواجهة، مكتوبٌ عليها: “فطائر مجانية لمن لا يستطيع دفع ثمنها”. اقتربت من المحاسب وقلت له: “هل لي بفطيرة محمرة مع قشقوان، مع أنني لا أملك نقوداً؟”، مباشرةً طلبها من عامل الفرن، وقدَّمها لي بمحبة، قائلاً: “صحة وهنا”، فدفعت له ثمنها شاكراً كَرَمَهُ، وقلت: “أحببت أن أتأكد من صدق اللافتة”، فأجابني: “الله بيجبر يلّي بيجبر”. ومن حينها وفكرة “جبر الخواطر” تُلاحقني من مكان إلى آخر، لما فيها من عطاء إنساني لا يخبو وهجه، وقدرة على إزاحة الهمّ والغمّ، ودَمْل الجِراح الغائرة، وتحلية مذاق الحياة وهو ما حصل ذات مرة أمامي ضمن (مكتبة كلمات) في صحنايا، حيث دخلت امرأة يبدو من لكنتها أنها من ريف حلب، لتخبر مدير المكتبة، أنها مضطرة لإيقاف ابنها عن الاستمرار في دورة اللغة الفرنسية، وفي صوتها غصّة واضحة. يبتسم الأستاذ “حسام أبو فرح” بوجهها، قائلاً: “إن كان السبب هو عدم قدرتك على دفع تكاليف الدورة الجديدة، لا تهتمي”. فتجيبه بحزن كبير: “أنت تعلم واقع الحال، يؤسفني ذلك، لكنني مجبرة عليه”. هنا تزداد ابتسامة الأستاذ حسام المُطمئنة، ويقول لها: “ابنك مجتهد، ويسعدنا أنه من طلاب مكتبتنا. اعتبري هذه الدورة الجديدة هدية من مكتبة كلمات، وأرجو منك أن تقبليها”. تستدرك الأم المتعبة: “لكنني لا أريد تحميلك ما لا طاقة لك به”. يرد عليها: “ابنُكِ ابني وانتهى الأمر”. يُدَوِّن لها أوقات الدروس في الدورة الجديدة، يناولها إياها بابتسامة محبة، فتخرج وهي تردد: “الله يجبر بخاطرك”.
شمعة في القلب
جبر الخواطر قادر على انتشال المرء من كَمَدِه، وإشعال شمعة في قلب باغتته العتمة، وهو ما حصل في القصة التي رواها لي أحد الأصدقاء عن “أبو فجر” ابن مدينة درعا ذي الخمسة والستين عاماً، عندما تراجعت صحته، ما منعه عن الذهاب إلى الأرض مصدر رزقه الوحيد، وبعد ثلاثة أسابيع من فترة مرضه التي جعلته طريح الفراش، ذهب إلى أرضه ليجد أن كل ما تحتاجه من تقليب التربة، وتقليم الأشجار، وري، وما إلى هنالك، قد تم على أكمل وجه، يستغرب أشد الاستغراب، ليكتشف أن جيرانه وأولادهم كانوا يذهبون أبكر إلى أراضيهم، وما إن ينتهوا من أشغالهم، حتى يجتمعون في أرضه ويقومون بما ينبغي عليهم من دون أن يخبروه، رغم أنهم كانوا يعودونه في بيته بشكل يومي بعد عودتهم من الأرض.
هذا السخاء في العطاء والبَذْل، لا تجبر المكسور فقط، بل تجعل روحه تُزهِر، وقلبه يمتلئ بالعرفان، خاصةً في زمن بات فيه الشواذ قاعدة، والمثالية مُعابَة بأنها ليست واقعية، لكن مع ذلك هناك من يتعامل مع الحياة برومانسية قَلَّ نظيرها، مثل تلك الشابة الثلاثينية، التي أخبرتني عنها صديقتي “شذى الموعي” قائلةً: “رغم توسُّط بيتها عدّة محالّ، لكنّ الشابة تنتظر أن تمرَّ بالكورنيش البحري في طرطوس لتشتري علبَ محارم من رجلٍ مسنٍّ يفترش، صيفاً وشتاءً، الرصيف، مع أكياس متواضعة جدّاً في جودتها، لكنّه يعتقدُ عكس ذلك، كيف لا وتلك الشابة تمنحه دوماً شعوراً أنّ لولاه ستنقطع المحارم من الوجود، ليطمئنها بدوره، وبجدّيّةٍ مطلقة، أنّه باقٍ هنا، وأنّها لن تنقطعَ من المحارم طالما في روحِه نفس، وفي قلبِه نبض”.
من أسماء الله الحُسنى
“جبر الخواطر” قد يكون بكلمة، أو اتصال، أو إيماءة، أو نظرة، أو تعاطف، وقد يكون مجرد وجود إنسان ما بالقرب منك هو أكبر جبر للخاطر، كما أن ذاك الجبر قد يأتي على هيئة قصيدة أو رسالة أو رواية أو أي كتاب، وربما يتجسَّد بضَمّة أو قبلة أو حتى مجرد مُصافحة أو مُلامسة، هذا الطيف من تَمَثُّلات “جبر الخواطر” يعيدني إلى ما قرأته مرَّة في كتاب تفسير “أبو إسحق الزجاج” لأسماء الله الحسنى، ومنها “الجَبَّار” وجاء فيه: “الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ”، وعلى سيرة جَبر المرض بالصحة، فإن ذلك ذكَّرني بالدكتور السوري “إحسان عز الدين” الذي لُقِّبَ بـ”طبيب الفقراء” لأنه ظلَّ في عيادته الواقعة بمنطقة جرمانا، يداوي مرضاه لسنين طويلة بأجرة معاينة خمسين ليرة فقط، كما أنه خجل خجلاً كثيراً واعتذر من مرضاه عندما رفع تعرفة معاينته إلى المئتين، وفي كلتا الحالتين فإن أجرة سرفيس داخل أي بلدة تتخطى عتبة تلك التعرفة.
وفؤادُه مُتصدِّعٌ مكسورُ
“جَبَرَ خاطِرَهُ” في معجم المعاني الجامع، والمعجم الوسيط، معناه “أجاب طلبه، عزّاه وواساه في مصيبة حلَّت به، أزال انكساه وأرضاه”، وأجمل ما فيها، في بعض الأحيان، أن يكون فاعلها مُستتراً، مبنياً على المحبة الخالصة، والإحساس بالآخر، بغض النظر عن المعرفة الشخصية، فهناك من يؤمن بأنه إذا أعطيت فلا تجعل يُسراك تعرف بما أعطته يُمناك، ومن أولئك سيدةٌ سورية، دخلت إلى صيدليةِ بالقرب من منزلي، وطلبت من الصيدلاني أن يفتحَ دفترَ الدّيون، وينتقيَ لا على التعيين اسمَ فقيرٍ يستدينُ باستمرارٍ ثمن أدويته، وأن يشطبَ ما عليهِ من دينٍ لتدفعه هيَ، وتريحهُ هذا الشهر من عبءِ مصروفِ الأدوية، شرطَ ألاّ يعلمَ باسمها، لا هو، ولا غيره.
وهناك قصة روتها لي صديقة حلبية عن طفلةٍ نزحت من الريف، دخلت إلى محلِّ أجبان، وبين أصابعها تتكوّر ورقةٌ نقديةٌ من فئة قليلة، تطلبُ من البائع بكلِّ لطفٍ وثقة، أن يضعَ لها بعضَ الجبن. وقبل أن ينطلقَ البائعُ لا شعورياً في قهقهته العفويّة، تلاقيه من الخلف غمزةُ رجلٍ يقف بانتظار دورهِ في زاوية المحلّ، أن ضَعْ لها ما تشاء، وأنا سأحاسبك، لكن لا تجرحها ولا تحرجها، فهذا أثمن بكثير من سعر قطعةِ جبنٍ لا تتجاوز نصف حجم الكفّ.
يقول الشاعر جهاد جحا: “وتراهُ في جبر الخواطر ساعياً.. وفؤادُهُ متصدِّعٌ مكسورُ”، وكأن الفاعل هنا مُحتاجٌ لأن يكوناً مفعولاً به بمثل فعلته، وفي هذه المفارقة تأكيد على عظمة ألم مكسوري الخاطر، أصحاب الجراح الغائرة، والأرواح المكلومة، والأهم على رِفعَة محبة العَطاء التي يتمتع بها كثير من السوريين، الذين يجعلوننا رغم كل المآزق التي نعيشها، نقول إن الدنيا ما زالت بخير.