الحرية- حسيبة صالح:
شهد نادي الكتاب بدمشق فعالية أدبية مميزة تمثلت في مناقشة رواية “جزء ناقص من الحكاية” للكاتبة المصرية رشا العدلي، التي تُعتبر واحدة من أبرز الروائيات في العالم العربي، الرواية التي صدرت عن الدار العربية للعلوم، تجمع بين التاريخ والفن والنفسية، وتُبرز قدرة الكاتبة على المزج بين الواقعية والتخييل بأسلوب أدبي فريد.
خلال اللقاء، ناقش الحضور أسلوب الكاتبة في كتابة الرواية التاريخية، وكيف استطاعت أن تمزج بين الحدث التاريخي والخيال الأدبي دون تزييف الحقائق. كما تناولت المناقشة تأثير الرواية على القارئ، خاصة في استكشاف الجوانب النفسية للشخصيات.
أكد الحضور أن الرواية تهدف إلى تسليط الضوء على الجوانب الإنسانية العميقة، وكيف يمكن للأدب أن يكون وسيلة لفهم الذات والآخر.
أدارت النقاش الأستاذة تمارى الحمصي أستاذة اللغة الإنكليزية ومدربة يوغا وبدأت حديثها لـ”الحرية”: بمرور الوقت، ندرك حقيقة الأشياء التي حدثت، وندرك أهميتها التي أغفلناها وقتها فكل الصدف والفرص والتجارب بالتأكيد حدثت لغرض ما. ولكن في ذلك الحين يكون الغرض مخفياً بالنسبة إلينا، ووقتها يظهر لنا مدى صعوبته وتعاسته وأننا بالتأكيد لا نستحقه. ولكن، فيما بعد، تتضح الأشياء، وتظهر على حقيقتها.”
شخوص وتجارب
غامرني شعور بالفراغ والحزن عندما أنهيت آخر صفحة من رواية رشا عدلي “جزء ناقص من الحكاية” فقد عشت مع شخوصها وشاركتهم لحظة بلحظة تجارب حياتهم ومشاعرهم المتدفقة والتي رسمت كاتبتنا تفاصيلها بشفافية وعمق غريبين.
ما من راوٍ للرواية، فكل شخصية فيها تعبّر عن تجربتها بلسان حالها، فتغدو على الورق حيّة نابضة، متحركة بانسياب قلّ نظيره في الأدب.
لم تبخل علينا الكاتبة بدروس عن الحياة استنبطتها الشخصيات من تجربتها. فعاصرنا “سيف” الضابط الذي خاض نكسة ال 67 وعايش النصر في حرب الـ 73 وصراعاته النفسية التي واجهها بقوة وبسالة وعزيمة وإيمان. إلى “ناني” التي قادتها صدمة الطلاق إلى أن تقع في فخ الشهرة وتصبح بلوغر. أما “فيفيان ماير” والتي تتمحور القصة حول لقطاتها الفوتوغرافية فهي تعيش سباقاً مع الزمن تقبص على لحظة هاربة لتمدها عمر بأكمله. إضافة إلى “كوليت” الرقيقة التي قادها تيهها إلى أن تبحث عن بداية جديدة.
رصدت كاتبتنا ما يقارب ستة عقود زمنية أبرزت فيها المتغيرات على النفوس والمجتمع وأبهرتنا برواية محاكة بأسلوب جديد وفريد وفائق الروعة، حيث تترابط الشخوص بلقطات متلاحقة ندرك فيما البعد المغزى منها ونرى لوحة فنية لن تتكرر.
تصالح وتعافي
تعد الرواية مغامرة نحو التصالح مع الحياة والتعافي من آلامنا فميلادنا يتجدد دائما، الأبواب غير موصدة، وكل باب يقودنا إلى آخر، وكل وجه من وجوه الحياة يقودنا نحو عالم مغاير.
في الرواية رغم قساوة ظروف بعض شخوصها جرعة كبيرة من التفاؤل، ونحن، بخضم الظروف التي تعصف بنا، أحوج ما نكون لهذه الجرعة.
الرواية تذكرنا أنه مهما اشتدت علينا المحن ومهما عاكستنا الحياة وأرتنا وجهها المظلم، ثمة أمل. إذ لا بد للظلام أن ينجلي و نرى النور مرة أخرى.
لحزمة ضوء صغيرة تنبثق من خلف باب موصد أثر السحر. علينا فقط اختيار المواجهة لنعلم أنفسنا كيف نشفى. فالهروب لا يشفي الجروح. خوض التجارب بكليتها هو ما يعافي الروح، ويسير بنا لشاطئ أكثر أماناً.
الشفاء يأتي من التصالح مع الماضي، ومواجهة الحاضر لبناء مستقبل أكثر إشراقاً
أما اختيار العنوان “جزء ناقص من الحكاية” فله أوجه كثيرة، إذ ثمة جانب خفي في رواية كل من
فإما أننا نصدر للعالم وجهاً مظلوماً لنحصل على التعاطف أو لنقنع أنفسنا أننا ضحية مثل ناني، أو لنهرب من واقع استنزفنا مثل فيفيان (مارسيل الجاسوسة).
أما كوليت التي هي بين قوسين الأكثر حضوراً لأن كل شخصية منا فيها جانب منها فهي الوحيدة الغائبة كسرد.
وهناك أيضاً روان التي بدأت الرواية بظهورها، فقد ارتأت أن تقلب الطاولة وتتمرد وتذهب للأقصى.
بكل شخصية من شخوص الرواية، نجد جانب يشبهنا. ولو أخذنا ما يشبهنا من الشخوص المرسومة والمرصوفة، بعناية لخلقنا لأنفسنا الصورة الأقرب لذواتنا.
فمن منا لم يتنمِ أن ينسف حياته ويعيد خلقها من جديد في تربة أخرى لعالم موازي؟ كلنا دون استثناء تعترينا الرغبة بالرحيل، لنغدو أشخاص مختلفين تماما، وغالباً حالة الرفض هذه هي ما ساهمت في خلق إيمان البشر الراسخ بالجنة والجحيم أو بتناسخ الأرواح.
رحلة نحو الانعتاق
في هذه الرواية رصد لمجموعة من السير أو النماذج البشرية، نساء ورجالاً، وإن كانت سير النساء أكثر سطوة. يحاول أصحاب هذه السير الانعتاق من ظلمة عوالمهم وتبرير اختياراتهم وأفعالهم. فالرواية رحلة نحو الانعتاق وإعادة الخلق، وكل شخصية ترى الانعتاق من وجهة نظر مختلفة.
شخوص الرواية
خمسة بالترتيب، حسب السرد لا الأهمية: نستهلهم ب روان البوهيمية المتمردة بسبب صرامة والدتها في تربيتها. إذ تتعرض لأزمة نفسية وتشفى منها، أما التشافي فيأخذ أشكالاً فجة تظهرها روان بطريقة اللبس البوهيمي، والشعر المسدل المهمل و العذف الخارج عن المألوف بخلط أنواع مختلفة من الموسيقا إلى فن تصميم الأزياء إلخ..
وتأتي ثانياً ناني أو انتصار القرنفلي التي ربيت على الانتصار والكمال وأرادت نقل هذه الصورة لعائلتها، فخربت حياتها، (أبوها ضابط) سيف القرنفلي. ثم غدا التصوير بالنسبة لها يمثل ميلاداً جديداً وإعادة خلق أخرجها من أزمة الهجران، ومن ثم ابتلعها كحوت كبير، وتاهت بعالم لا يشبهها تليها فيفيان ماير أو مارسيل (المصورة، وهي السيرة الأساسية ومتابعة للسير الأخرى)، فيفيان ماير تحقق التعافي بالتصالح مع الماضي أو التخلص من أثره، خاصة من الشخصيات التي تركت عقداً و جراحاً في طفولتها، مثل أبيها وأمها وجدتها التي أودعتها في دور الأيتام
إلا أن رحلة حياتها الغريبة خلصتها في النهاية من النظرة السلبية تجاه ماضيها بشخوصه، واكتفت بحياة قائمة على منح من أشخاص قامت برعايتهم وتربيتهم، حيث عملت مربية بعد أن كانت مصورة وجاسوسة ثمّ سيف القرنفلي ضابط. والد ناني و جد روان و صديق مارسيل (فيفيان ماير). وسيم، يشبه كاري غرانت، فقد ساقه إثر عملية انتحارية بحرب النكسة وتزوج لاحقاً بعد أن تعافى من عقدة النقص الجسدي (التعافي).
سيف القرنفلي الشخصية الاكثر اكتمالا، فقد تخلص بعد أن تزوج من امرأة أحبته بصدق رغم عاهته، من عقدة النقص الجسدي، ومن ثم عقد تصالحه مع الزي العسكري من خلال ارتدائه له بعد نصر حرب أكتوبر، واعتراف الوطن بتضحيته ومقابلة الرئيس له لتكريمه “حملني الناس، وأخذوا يهتفون باسمي… انمحى الماضي… وانمحى الخذلان”.
هو الشخصية الأكثر اكتمالاً ومع ذلك انتهى بدور العجزة ويعاني من الزهايمر.
وآخرهم كوليت لا نقابلها ولا تروي لنا شيئاً عن عوالمها المخفية. ويبقى سر حياتها غائباً إلى ان يرى أمين صورتها بمعرض لصور فيفيان ماير.
يروي قصتها ويكشف عن خفاياها ويركب جزئياتها ابن أختها أستاذ جراحة التجميل الشهير الدكتور أمين مخلوف
كوليت (الشخصية الوحيدة يلي لا نقابلها بالرواية ولكن الأكثر حضوراً) مصرية إيطالية، “كوليت كانت هنا” مقولة منافية لحضورها الجسدي.
ويصدمنا أمين حين يصور لنا ناني على أنها كوليت، إذ تدخل ناني لعيادته رافضة وجودها في الحياة وراغبة باقتلاع جذورها، وتطلب تغير ملامحها عنده -طبيب التجميل الأشهر-
ويقول “لم أر في هذه المرأة سوى كوليت التي اختفت منذ زمن طويل”.
وكأن ربط الشخصيتين تعزيز لفكرة رغبة الإنسان في اقتلاع جذوره وبذرها في عالم آخر.
النساء في الرواية تتقاطع حيواتهن في سياق السرد و يتشابهن بالهشاشة والبؤس ورفض الواقع
أما نماذج شخوص الرجال في الرواية فهم رغم معاناتهم أقوى وأكثر قدرة على التكيف مقارنة بنسائها
وإن كن أي النساء أكثر صبرا وتحملا.
فسيف القرنفلي والدكتور أمين مخلوف وروان شخصيات تتعلم أن تعرف ما تريد رغم قساوة التجربة.
إهداء (إلى كل شهداء الوطن)
لابد من الاعتراف بعظم مفهوم الشهادة والدفاع عن الوطن باستماتة إلا ان الراوية نوهت بين السطور أن سياسة المصالح الدولية هي المحرك الأساسي خلف مجريات الأمور. ليس انتقاصاً من حب الوطن، ولكن استكمالاً لصورة شمولية تلقي الضوء من خلالها على واقع نعيشه كل يوم.
اختُتمت المناقشة بتفاعل كبير من الجمهور الذي عبّر عن إعجابه بالرواية وبأسلوب الكاتبة في تناول موضوعات معقدة بطريقة سلسة ومؤثرة. كانت الفعالية فرصة لتعزيز الحوار الثقافي بين الأدباء والجمهور، ولتسليط الضوء على أهمية الأدب في فهم الحياة.