الحرية – متابعة مها سلطان:
اتهم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الولايات المتحدة بـ«فبركة حرب» بعد أن نشرت أمس أكبر حاملة طائرات في العالم «يو إس إس جيرالد آر فورد» في منطقة الكاريبي، ضمن تصعيد كبير لحشدها العسكري في المنطقة.
وقال مادورو في تصريحات اليوم لوسائل إعلام رسمية: إنهم يفبركون حرباً أبدية جديدة.. لقد وعدوا بعدم التورط في أي حرب مجدداً، لكنهم يختلقون حرباً الآن.
وزادت الولايات المتحدة وجودها العسكري في منطقة الكاريبي، عبر إرسال سفن حربية، وغواصة نووية، وطائرات من طراز «إف-35» ضمن ما تصفها واشنطن بحملة تستهدف مهربي المخدرات.
وكانت القوات الأميركية نفذت أمس الجمعة ضربات جوية جديدة على ما يسمى قوارب المخدرات في البحر الكاريبي والمحيط الهندي، وهي الضربة العاشرة منذ منتصف أيلول الماضي.
ويبدو أن هذه الضربات ستستمر وقد تشهد تصعيداً خطيراً في الأيام المقبلة، وبما يعيد إلى الأذهان فصولاً من تاريخ تدخلات واشنطن في أميركا الجنوبية، بحسب ما نشرته وسائل إعلام أميركية.
حرب استباقية
ووفق الرئيس الأميركي دونالد ترامب فإن هذه الضربات هي حرب استباقية ضد تجار الموت الذين يتسببون في مقتل أكثر من 25 ألف أميركي سنوياً.
هذه الضربات باتت تستحوذ على مساحة رئيسية من اهتمام وسائل الإعلام الأميركية، مع جدل يتسع حول أهدافها الحقيقية، حيث نشرت كل من مجلة «فورين بوليسي» وصحيفة نيويورك تايمز مقالين تحليليين حول هذه الضربات التي يجري تنفيذها من دون تفويض من الكونغرس أو إشعار مسبق للحلفاء، ما يشكل خرقاً لوعد ترامب الانتخابي بألا يخوض «حروبا جديدة» وفق نيويورك تايمز.
وترى فورين بوليسي أن الهدف الحقيقي قد لا يقتصر على مكافحة المخدرات، بل يتصل برغبة قديمة لدى الرئيس ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو في الإطاحة بنظام الرئيس نيكولاس مادورو في فنزويلا، فواشنطن تعتبر الحكومة الاشتراكية في كراكاس مصدراً لزعزعة الاستقرار في المنطقة ورمزا لتحدي النفوذ الأميركي في نصف الكرة الغربي.
وتقول: إن الضربات البحرية جاءت في لحظة حساسة سياسياً، إذ تواجه إدارة ترامب انتقادات داخلية بشأن أدائها الاقتصادي وملفات الفساد، لذلك يُحتمل أن تكون الحملة «محاولة لتحويل الأنظار وإظهار الحزم الخارجي» حتى لو كان الثمن تصعيداً عسكرياً غير معلن.
وحسب وسائل الإعلام الأميركية فإن هذه الضربات أشعلت جدلاً ساخناً في واشنطن، إذ فشل الديمقراطيون في مجلس الشيوخ بفارق ضئيل في تمرير قرار بموجب «قانون صلاحيات الحرب» لوقف العمليات، في حين وصفت منظمات حقوقية – من بينها فريق من محققي الأمم المتحدة– الهجمات بأنها عمليات قتل خارج القانون.
صلاحيات ترامب
وترى فورين بوليسي أن ترامب يستند في تبرير عملياته إلى المادة الثانية من الدستور الأميركي التي تمنح الرئيس سلطة حماية الأمن القومي، موضحة أن عصابات المخدرات في أميركا اللاتينية -التي صنفتها إدارته منظمات إرهابية- تمثل تهديداً على البلاد.
لكنها بالمقابل توضح أن الكونغرس لم يعلن حالة الحرب ضد تلك العصابات، كما أن القانون الدولي لا يعترف بأن تجارة المخدرات تُعد هجوماً مسلحاً يبرر استخدام القوة المميتة.
ووفقاً للمجلة الأميركية فإن فنزويلا ليست مصدراً رئيسياً لمادة الفنتانيل المخدرة التي تفتك بالأميركيين، وإن الضربات الجوية في البحر الكاريبي عديمة القيمة الإستراتيجية في سياق مكافحة المخدرات، مشيرة إلى أن تدمير القوارب من الجو – بدلاً من اعتراضها عبر خفر السواحل كما هو معتاد – يؤدي إلى طمس الأدلة تماماً، ما يغذي الشكوك بأن الحملة تخدم أهدافاً جيوسياسية أكثر منها قانونية.
وتستشهد فورين بوليسي بتصريح لفاندا فيلباب براون من معهد «بروكينغز» بأن هذا «الفراغ القانوني» قد يمهد لتوسيع استخدام القوة العسكرية بذريعة مكافحة المخدرات حتى داخل الأراضي الأميركية.
ويرى كينيث روبرتس أستاذ العلوم السياسية في جامعة كورنيل أن ترامب بمزجه بين «الإرهاب والمخدرات» قد دمج منطق الحرب على الإرهاب في الحرب على المخدرات، مانحاً نفسه صلاحيات شبه مطلقة متجاوزاً الكونغرس والرقابة القضائية.
أشباح التدخل القديم
وتركز فورين بوليسي على البعد الجيوسياسي في تناولها لحرب ترامب على قوارب المخدرات، وتذكر بتاريخ التدخل الأميركي في أميركا اللاتينية تحت ذرائع شتى مثل مكافحة الشيوعية أو الإرهاب أو المخدرات، مشيرة إلى أن لغة الرئيس وأسلوبه يعيدان إحياء «عقيدة مونرو» التي تعتبر نصف الكرة الغربي مجال نفوذ أميركي حصري.
وتعتبر أن هذا التفكير المتجذر في ذهنية الحرب الباردة قد يشعل التوتر مع دول المنطقة ويفتح الباب أمام نفوذ قوى منافسة، مثل الصين التي تعزز حضورها الاقتصادي والدبلوماسي هناك.
هذه النظرة بدأت تظهر تداعياتها على الأرض خصوصاً حادثة مقتل صياد كولومبي خلال إحدى الضربات في أيلول الماضي التي تسببت بأزمة دبلوماسية بعدما رد ترامب باتهام الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو بأنه «زعيم مخدرات غير شرعي».
وفي تقدير فورين بوليسي فإن مثل هذه الحوادث تقوض التحالفات التقليدية وتهز صورة الولايات المتحدة كمدافع عن القانون الدولي.
سرية المذكرات القانونية
وفي مقال مماثل، كشفت نيويورك تايمز أن مكتب الاستشارات القانونية في وزارة العدل الأميركية أصدر رأيا سرياً يعتبر الضربات ضد قوارب المخدرات قانونية، لكن مضمون هذا الرأي لم يُكشف للرأي العام.
وترى أن هذا التكتم يعيد إنتاج مناخ ما بعد هجمات 11 أيلول 2001 على الولايات المتحدة حين استخدم البيت الأبيض مذكرات مماثلة لتبرير التعذيب والتنصت والاغتيالات المستهدفة بذريعة الأمن القومي.
وتعيد نيويورك تايمز إلى الأذهان أن المكتب نفسه هو من منح الرئيس جورج بوش الابن غطاءً قانونياً لبرامج التعذيب في سجون وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) كما أقر للرئيس الأسبق باراك أوباما بجواز قتل مواطنين أميركيين يشتبه في صلتهم بالإرهاب دون محاكمة.
تلك المذكرات لم تُكشف إلا بعد معارك قضائية طويلة، ليتبين لاحقاً أنها كانت قائمة على تأويلات متطرفة للقانون والدستور.
وتؤكد نيويورك تايمز أن الخطر الحقيقي لا يكمن في العمليات العسكرية بحد ذاتها، بل في تركيز السلطة التنفيذية بيد الرئيس تحت غطاء الأمن القومي، فبشن عمليات مميتة دون شفافية أو رقابة أو أدلة تتجاوز إدارة ترامب الضوابط الدستورية التي تضمن التوازن بين السلطات.
وتقول إن استمرار هذا النمط من السرية «يُفسد الديمقراطية الأميركية» ويجعل من السلطة التنفيذية كياناً فوق القانون.
وتخلص كل من نيويورك تايمز وفورين بوليسي إلى أن ما يحدث يمثل تداخلاً خطيراً بين القوة العسكرية والسرية القانونية، فالحملة البحرية – سواء كانت موجهة ضد مهربي المخدرات أو ضد نظام مادورو – تجسد تحولاً مقلقاً في السياسة الأميركية، تتجلى في حرب بلا إعلان، وعدالة بلا محاكمة، وقانون يُفصّل على مقاس السلطة.
وتختتم نيويورك تايمز وفورين بوليسي بتحذير فيلباب براون- الباحثة في معهد بروكينغز – من أن مثل هذه العمليات لن تقلص حجم تجارة المخدرات بقدر ما تعيد تشكيل مفهوم الحرب ذاته، جاعلة من الفضاء البحري مسرحاً لصراع سياسي مقنّع بعباءة أخلاقية.