الحرية – رنا بغدان:
استخدم الإنسان على مرّ الزمان الذهب واقتناه لأغراض عديدة لما له من خواص مميّزة، فسكّ منه العملات وصنع الحلي وتيجان الملوك وأبدع منه أعمالاً فنّية ارتبطت بتوثيق التاريخ الإنساني لدى الكثير من الشعوب والحضارات..
وفي دمشق تمتعت حرفة “الصياغة” بشهرة واسعة عربياً وعالمياً وأثبت حرفيوها جدارتهم في التعامل مع هذا المعدن الثمين البراق الذي اعتبره الناس زينة وخزينة، ورغم التطور التقني الذي طال هذه الصناعة لا تزال بعض النماذج اليدوية حكراً على أنامل الحرفيين الدمشقيين الذين طبعوا بصماتهم بأمانة على صناعتهم ليحفظها لهم التاريخ..
ويجمع “سوق الصاغة” الذي يقع قبلي الجامع الأموي صياغ الذهب والفضة والمجوهرات وبائعيها، وهو سوق تاريخي نصفه مكشوف والنصف الآخر مغطى، مختص بصياغة وبيع المعادن الثمينة والمجوهرات في مدينة دمشق القديمة وعُرف قديماً باسم “سوق القوافين”، والقواف هو بائع أصناف النعال والأحذية التقليدية وكان يجاوره من جهة الشرق سوق الصاغة القديم الذي احترق وانتقل تجاره إلى هذا السوق بعد اضمحلال مهنة “القواف”، وهذا ما يفسر وجود بعض محلات بيع الأحذية في هذا السوق ومجاورة الخشب للذهب في سوق واحد، وقد قُسم قديماً لقسمين “الصاغة الجوانية” عند سوق الحدادين وفيها يباع اللؤلؤ والجواهر، و”الصاغة البرانية” وفيها تباع الأساور والخواتم في القيسارية التي أنشئت عام 631هـ قبلي النحاسين، وقد جددت شرقي هذه “الصاغة البرّانية- الجديدة” وسكن فيها الصوّاغ وتجار الذهب والجواهر.. ويتألف السوق من مجموعة مصاطب كبيرة يتوزع عليها بائعو المجوهرات.
ويعدّ العهد الأيوبي المحطة الأولى لسوق الصاغة في دمشق، حيث كشفت اللقى الأثرية في المكان أنه يعود إلى الفترة الأيوبية وقد يكون أقدم من ذلك، في حين ازدهرت هذه الصناعة بشكل كبير في العهد المملوكي وكان سوق الصياغ القديم يضم 72 محلاً، وعند احتراقه عام 1960م انتقل إلى مكانه الحالي في الحريقة عام 1961م، ولايزال منذ ذلك الحين يجمع حرفيي الصاغة رغم انتشار المحال في أنحاء دمشق والتي تشرف عليهم وتهتم بأمورهم وتعاملهم مع الناس الجمعية الحرفية للصياغة والمجوهرات بدمشق والتي تتبع اتحاد الحرفيين.
وقد حافظ الذهب السوري على سمعته وشهرته وأثبت الحرفي الدمشقي أمانته وذوقه في صنع وابتكار العديد من أشكال الصياغة وهذا ما أكسب دمشق الشهرة بنماذجها الذهبية اليدوية التقليدية والتي لا تستطيع الآلات الحديثة صنعها مثل “كسر الشفت” و”الكوردون” وغيرها ما جعل السياح يتهافتون على اقتنائها واستطاع الحرفي أن يضع بين أيدينا أجمل النماذج والأشكال التي حفظت في متاحف العالم والتي يحتفظ المتحف الوطني ببعض منها ويبلغ عمر كل قطعة منها آلاف السنين قبل الميلاد، واليوم تطورت طرق الصناعة وتدخلت الآلات الحديثة في تصنيع النماذج وصبّها على الشمع وسكبها وصار ينقش عليها بالليزر.