رفضت المحاكم شهادتهم .. حكايات موسيقية موثقة للباحث صميم الشريف

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية- لبنى شاكر:
مرجعيّةٌ موثوقةٌ؛ توصيفٌ ينسحب على مُجمل مُؤلفات الأديب والباحث صميم الشريف (1927-2012)، تحديداً المعنيّة بالموسيقا، منها “أساطين الموسيقا العالمية”، “الأغنية العربية”، “السنباطي وجيل العمالقة”. فهو ينطلق في أبحاثه من مصادر مُتعددة، كالكتب والصحف والمجلات، ويُجري لقاءاتٍ مع موسيقيين أصحاب تجارب وبصمات في الحياة الفنيّة، ومن ثم تتشعّب كتابته في عدة اتجاهات، تُوازي بين الخاص والعام للشخصيات موضوع البحث، وتتجاوز الإشكاليّة التي تتسم بها كتاباتٌ كثيرة، تتعاطى مع الموسيقا دونما العودة إلى جذرها الاجتماعي، لهذا عدّه كتّابٌ ومُهتمون بالموسيقا، شيخ النقاد الموسيقيين السوريين، ورقماً أوّل في التأريخ والتدوين والتحليل لتاريخ الموسيقا ومبدعيها فـي سوريا.

تُقدّم دراسة الشريف تحليلاً نقدياً عميقاً لتجارب موسيقية، وتُحدد ما صمد منها أمام التطورات وما زال

مفاجآتٌ ومحاكمات

آخر ما كتبه الشريف في الموسيقا، دراسةٌ موسيقيةٌ صادرةٌ عن الهيئة العامة السورية للكتاب في أربعة أجزاء، تحت عنوان “الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ”، اعتمد فيها على صحفٍ ومجلاتٍ صدرت في فتراتٍ زمنية متباعدة منها “الفنون الجميلة، الإذاعة اللبنانية، هنا دمشق، مجلة الإذاعة والتلفزيون، القبس”، إضافةً إلى ملاحق دورية خاصة ببرامج الإذاعات العربية، كما كانت له لقاءات مع فنانين شاءت الأقدار أن يرحلوا بعد أشهرٍ قصيرة على أحاديثهم، منهم “شفيق شبيب، زكي محمد، عزيز غنام”.
في هذه الدراسة مفاجآتٌ ومحاكماتٌ لتجارب ووقائع، وشرحٌ دقيق لحوادث وانعطافات بعضها امتد أثرها في الزمن، وأخرى توقفت أو لم تستطع الدفاع عن أحقيتها أمام الجديد والمطلوب موسيقياً، إلى جانب احتفائها بالتفاصيل التي تجعل من كل محورٍ فيها، بحثاً بحد ذاته، مع ربطٍ مُحكم لِما طرأ على الموسيقا عامةً في سورية كغياب أنواع موسيقية واستحداث أخرى، بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، للموسيقيين والمتلقين من مختلف الطبقات والشرائح، ما يجعلها مرجعاً للعاملين والباحثين في علوم الموسيقا ومجالاتها.

كانت شهادة العاملين في الموسيقا غير مقبولة في المحاكم أسوة بكشاشي الحمام ومتعاطي الكحول والمخدرات

قسوة المجتمع

اللافت في الدراسة التي تُحيط بميادين موسيقية كثيرة، إمكانية إسقاط أجزاءٍ من محتوياتها على الواقع الموسيقي الحالي، بحيث لا يشعر القارئ المُتابع والمُطلع بأن انقطاعاً حصل بين الجزء الأخير للكتاب، وما هو قائمٌ اليوم بعد زمنٍ على صدوره، ففي القسم الأول من الجزء الأول للدراسة، والذي يستحضر الحياة الموسيقية في سوريا أواخر القرن الماضي، يُشير الكاتب إلى ما عايشه أهل الطرب من معاناة، وصلت إلى درجة رفض شهادتهم في المحاكم، يقول: “إذا عرفنا بأن المجتمع كان ينظر نظرة قاسية إلى أهل الطرب من الموسيقيين والمطربين والفنانين عموماً – بسبب المعتقد الديني- وظل يعتبرهم حتى السنوات الأولى التي تلت جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا في العام ١٩٤٦، من أحط الناس، أدركنا سر المعاناة التي كان يتعرض لها أولئك الذين كانوا يصنعون المسرة لكل الناس، فقد كانت شهادة كل العاملين في الموسيقا غير مقبولة في المحاكم أسوة بكشاشي الحمام ومتعاطي الكحول والمخدرات”.
ولعلّ النموذج الأبرز في هذا السياق “أحمد أبو خليل القباني” ١٨٣٣- ١٩٠٣، يقول الشريف: “في هذا الجو المتزمت ظهر القباني بمسرحه الغنائي كظاهرة فريدة في الغناء والموسيقا، والمسرح الغنائي، غير أن مجتمع دمشق المحافظ والضغط الذي مارسه العثمانيون عليه، والتردي الثقافي والفكري للمجتمع الشامي عموماً، كل هذا دفعه في لحظة من لحظات اليأس إلى الرحيل عن ديار الشام إلى مصر، التي وصلها في الثالث والعشرين من تموز ١٨٨٤ ليكرس فنه لخدمة المسرح، والمسرح الغنائي، فأبلى فيهما بلاء حسناً، دفع بالمسرح المصري خطواتٍ إلى الأمام”.

” أحمد أبو خليل القباني” رائد المسرح الغنائي.. هاجر من دمشق إلى مصر بسبب الضغط المجتمعي والعثماني، ومن ثم ساهم في تطور المسرح المصري”

مؤتمر الموسيقا العربية

أما الحدث الفني الأهم على مستوى الوطن العربي كما يصفه الباحث، والذي يبدو ضرباً من الخيال اليوم، فهو عقد مؤتمر الموسيقا العربية في القاهرة عام 1932، بدعوةٍ من الملك فؤاد الأول، وبتوجيه من المستشرق الإنكليزي البارون “رودولف ديرلنجه”، ولم يكن غريباً، على الأقل تبعاً لما مهّد له الشريف أن ينتهي المؤتمر نوعاً ما إلى اللاشيء، حيث رفض الموسيقيون العرب، ومنهم الوفد السوري كل ما طرحه الباحثون الغربيون من قضايا تتعلق بالموسيقا الشرقية عامة والموسيقا الغربية خاصة، والسبب في هذا يعود، “إلى غربة الموسيقيين العرب عن الأبحاث المقدّمة وانكماشهم في قوقعة الموسيقا الشرقية، التي تنتهي حدودها بالنسبة لمفاهيم ذلك الجيل عند التأليف والعزف والغناء في القوالب التي توارثوا منذ الاحتلال العثماني للبلاد، وخوفهم من سيطرة الموسيقا العلمية الآخذة بالانفتاح والامتداد على كل ما هو غير علمي”.
يُضيف الباحث موضحاً: “ولا يعني هذا بأن الموسيقا الشرقية لا تعتمد على العلم، بل على العكس، فإن حساب الصوت في الموسيقا الشرقية أدق بكثير من حساب الصوت في الموسيقا الغربية التي كانت تستخدم قبلاً سلالم مشابهة في حساب أصواتها للسلالم الشرقية، إلى أن جاء “باخ” وابتدع حلولاً علمية تتفق وأذن المستمع من جهة، ووحّد بين النغمات في كل أوروبا في نغمتين أو مقامين أساسيين من جهة ثانية. بينما لم يستطع العاملون في الموسيقا في وطننا العربي حتى اليوم، إيجاد مثل هذه الحلول، لافتقارنا إلى علماء حقيقيين يكرسون أبحاثهم لنظريات وكتب الأولين، وللتراث المحفوظ، والآخر المعروف، ولولا أبحاث الأستاذ القدير “مجدي العقيلي” التي انصب جلها على مؤلفات الأولين ونظرياتهم، لما حوت المكتبة العربية الموسيقية شيئاً مهماً وبارزاً في هذا المجال”.

Leave a Comment
آخر الأخبار