الحرية- لبنى شاكر:
لم تكن مُصادقة (شيخ الحرامية)، حسب التعبير المُتداول، مصدر قلقٍ للقصاص الشعبي حكمت محسن 1910-1968، فهو بحاجةٍ دائمةٍ إلى أفكارٍ حقيقيةٍ، قريبةٍ من يوميات الناس، حتى إنه عندما سُئل يوماً “متى سوف تُفلس، متى ستتوقف عن الكتابة؟”، كانت إجابته “عندما لا ترى أُناساً، اعرف أنك لن تُلاقي قصصاً”.
هكذا كان الإخلاصُ لكل ما هو واقعيٌّ ملموس، علامةً ميّزت واحداً من أبرز مُؤسسي الدراما الشعبية السورية إذاعياً ومسرحياً وتلفزيونياً، وجعلته قريباً من العامَّة، وأكثر فهماً لها فيما تُحب وتتحفّظ وتُباهي، حتى أن انتقاده لسلوكياتها بدا مُحبباً ومُتقبّلاً رغم ما فيه من قسوة ومواجهة، وفي السياق ذاته، لم يكن هذا التوجه مبرِّراً للسذاجة أو البذاءة أو الاستسهال، وكان مدروساً بحيث لم يخرج أحد ليقول “إن الوقت غير مناسبٍ للضحك”.
عن مشوار القصاص
كان القرب ممن يدعونهم “عامة الشعب” سبباً ساهم في شهرة حكمت محسن، وقاعدة استند إليها في نتاجه المُختلف عما كان سائداً في زمنه، وعلى ما يقوله الباحث الموسيقي أحمد بوبس، صاحب كتاب «حكمت محسن… رائد الدراما الإذاعية»، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، فقد أعطته علاقاته المتشعبة بمحيطه، دافعاً ليكتب توليفاتٍ ومقاطع إذاعية، أحبها الناس، اتفقوا واختلفوا عليها، لكنهم انتظروها، وهي ميزة تغيب عن إعلاميين كُثر، ينطلقون من أنفسهم لا من بيئتهم ومجتمعهم.
لم تكن مُصادقة (شيخ الحرامية)، حسب التعبير المُتداول، مصدر قلقٍ للقصّاص الشعبي حكمت محسن 1910-1968، فهو بحاجةٍ دائمةٍ إلى أفكارٍ حقيقيةٍ، قريبةٍ من يوميات الناس
يُؤكد بوبس، أنّ مسيرة القصاص لم تكن سهلة أبداً، إن لم نقل إن فيها من المصاعب ما يجعلها مُلهمةً للمُهتمين، فحين بدأ محسن مشواره، كان الناس ينظرون بتوجس إلى مهنة المشخصاتي، لذا كان عليه أن يتحمل رفض من حوله، إضافةً إلى فقر لازمه طويلاً، ثم كانت محاربة زملائه له صفعةً مؤلمةً، إلّا أنّ لقاءه مع الفنان وصفي المالح 1930 كان مفصلياً في حياته، حيث أسند إليه دوري «الحاكم» و«البربري مرجان» في مسرحية «استقالة إبليس»، وبعد سنوات ألّف مسرحية «صابر أفندي»، وخلال تلك الفترة عمل مع فرقة حسن حمدان، فكان يُقدّم بين فصول مسرحيات الفرقة فواصل فكاهية وأزجالاً غير ملحنة ومونولوجات ناقدة من تأليفه وتلحينه، وبعدها بزمن بدأ أولى تجاربه في كتابة التمثيليات القصيرة، وخلال ذلك كله كان يعمل منجداً في سوق المنجدين بالحريقة، وهي المهنة التي استمر فيها بعد عمله خياطاً وحداداً وماسح أحذية.
حين بدأ محسن مشواره، كان الناس ينظرون بتوجسٍ إلى مهنة المشخصاتي، لذا كان عليه أن يتحمل رفض من حوله، إضافةً إلى فقر لازمه طويلاً، ثم كانت محاربة زملائه له صفعةً مؤلمةً
عبر إذاعة دمشق
لاحقاً كان محسن من أوائل الأصوات التي أطلت عبر إذاعة دمشق، فوضع تقاليد للتمثيلية الإذاعية لا تزال قائمة حتى اليوم. يوضح بوبس أنّ الشخصيات الدرامية التي كانت تشارك محسن تمثيلياته وبرامجه كانت موجودة قبله لكنه استطاع توظيفها بشكل رائع حتى أخذت شعبيتها وشهرتها بالشكل الذي كان، منها شخصية «أم كامل» قدمها أولاً الفنان سامي الكسم ثم انتقلت إلى الفنان أنور البابا، أيضاً شخصية «أبو فهمي» التي أداها الفنان حسني تللو قبل أن تنتقل إلى الفنان فهد كعيكاتي، وينطبق الكلام نفسه على شخصية «أبو صياح» قدمها الفنان أنور المرابط في مسرحية «القادم من أمريكا» قبل الفنان رفيق سبيعي.
مما كتبه محسن للإذاعة بين تمثيلية وبرنامج ومسلسل «معليش، الخطابة، السندباد، مرايا الشام، صور شعبية، تمثيليات اجتماعية، العصابة، مسرح الإذاعة». وكانت له نتاجات كثيرة للتلفزيون منها «مذكرات حرامي» الذي سبق أن قدّمه في الإذاعة قبل أن يتم تحويله إلى آخر تلفزيوني عام 1968، أخرجه علاء الدين كوكش، وشارك في أداء شخصياته هاني الروماني وعمر حجو وسلوى سعيد وغيرهم، حقق العمل نجاحاً كبيراً، بعد أن جالس محسن «شيخ الحرامية» لساعات وسمع منه حكايات ضمَّنها مسلسله.
كتب محسن عدة مسرحيات أهمها كما يرى الباحث «صابر أفندي» و«يوم من أيام الثورة السورية»، تسلط الأولى الضوء على العلاقات الاجتماعية القائمة على النفاق والتزلف في حين إن الثانية أقرب إلى الأوبريت لكونها تضمنت التمثيل والغناء والرقص الشعبي، من دون أن ننسى عدداً من أزجاله التي تحولت إلى أغنيات، منها أغنية «على دلعونا» و«زين يابا زين» اللتين لحّنهما عدنان قريش وأدتهما كروان.
كانت أعمال محسن الناقدة مدروسةً، بحيث لم يخرج أحد ليقول “إن الوقت غير مناسبٍ للضحك”
ومن المفارقة أنّ نهاية علاقته بإذاعة دمشق لم تكن جيدة، ففي أحد الأيام صدرت بحقه عقوبة حسم لأنه تأخر خمس دقائق عن الدوام، يومها خرج محسن من مبنى الإذاعة ولم يعد إليه ثانية، لينتقل إلى وزارة الثقافة، ويبدو أن ما حصل أثّر فيه نفسياً فقلّت كتاباته ونشاطاته عدا مشاركته بدور صغير في فيلم «نور وظلام» وهو أول فيلم سوري ناطق أخرجه نزيه الشهبندر، قبل أن يرحل بالكفاف نفسه الذي بدأ منه، من دون أن يملك بيتاً رغم ما حازه من شهرة وموهبة في إضحاك الناس حتى على أوجاعهم.