عنوان يحمل عالماً: “حمل عن سابق إصرار” لهدى فاضل، رواية الحمولة الإنسانية

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي:

تأتي رواية (حمل عن سابق إصرار) للروائية هدى فاضل بعد عددٍ من روايات أخرى مثل: “الوقت” – الهيئة العامة السورية للكتاب، عن مطر لنا” – دار ماستر/مصر ، “ملل/شظايا فراغ” – دار رؤيا. وروايتين لليافعين – ستصدران عن دار نشر بوك لاند في خطة العام المقبل ٢٠٢٦.
وفي مشهد سردي عربي تزخر بأصوات روائية متعددة، تطلُّ الكاتبة السورية هدى فاضل بروايتها “حمل عن سابق إصرار” الصادرة عن دار رؤيا في السلمية، لتحجز لنفسها مساحةً متميزة بقوة حضورها وفي سعيها لفرادةٍ في أسلوبها. وتأتي هذه الرواية كتجربة سردية مغايرة، تغوص في أعماق النفس البشرية وتكشف عن المسكوت عنه في مجتمعٍ يعاني وعانى ويلات الحرب والضياع.

عتبة أولى إلى عالم كابوسي

يأتي العنوان “حمل عن سابق إصرار” كلافتة تحذيرية أمام مدخلٍ عالم غريب. إنه عنوان يستفزُ القارئ ويدفعه للتساؤل منذ اللحظة الأولى: أي حمل هذا؟ ولماذا هو “عن سابق إصرار”؟. إنه يحمل في طياته إحساساً بالثقل والمسؤولية والاختيار الواعي لتبعات قد تكون قاسية. “الحمل” هنا يتجاوز معناه البيولوجي المباشر ليتسع دلالياً، فيصبح رمزاً لكلِّ ما يحمله الإنسان في داخله من أعباء نفسية، وذكريات مؤلمة، وخطايا، وهموم وجودية، وآمالٍ معلقة. إنه حملُ الذات والوطن والتاريخ. أما “سابق الإصرار” فيشيرُ إلى وعي بهذا الثقل وقبول به، وكأن الشخصيات، وربما المجتمع بأكمله، قد اختاروا – بدرجة من الوعي – أن يحملوا هذا العبء، وأن يعيشوا دراما وجودهم بكلِّ ما فيها من ألمٍ، وكأن هذا الألم قدرٌ وُعِيَ فقُبِل.

سردية التداعي واللاوعي

تمثلُ الرواية نموذجاً مُكثفاً للسرد السوريالي القائم على التداعي وتيار الوعي. فلا تقدم فاضل حكاية تقليدية ببداية ووسط ونهاية، بل تغوصُ في “العقل الباطن” لشخصياتها، لتجعل الأحداث تتدفق كما لو كانت أحلاماً أو كوابيس يسردها كائنٌ لم يستيقظ بعد بالكامل. هذا الاختيار الأسلوبي ليس عبثياً، بل هو أداة فنية تتناسب تماماً مع فوضى العالم الداخلي للشخصيات وفوضى الواقع الذي تعيشه.
فيما السرد لا يسير في خط زمني مستقيم، بل يأتي على شكل “زمن دائري – حلزوني”، يعيدُ الشخصيات إلى نقطة البداية دائماً، وكأنهم عالقون في حلقة مفرغة من المعاناة. هذا الإحساس “الدهري” بالزمن، رغم حجم الرواية المتوسط، يجعلُ القارئ يشعرُ هو الآخر بالثقل والاستبطاء، وكأنه يعيش مع الشخصيات أزمنتها الممتدة بلا نهاية.

شخصيات بلا أسماء

من أبرز ملامح اللاوعي في هذه الرواية – حمل عن سابق إصرار- هو تغييب ملامح الشخصيات وهُوِيَّاتها الواضحة. نحن لا نعرف أسماءهم، بل نعرفهم من خلال أدوارهم أو وظائفهم: “السجان، الجاسوس، الطبيب، الحاكم، المرأة المهجورة”. هذا التغييب ليس نقصاً تقنياً، بل هو خيار جمالي وفكري عميق. إنه يؤكد على فكرة أن المأساة جماعية، وأن الشر والخير والضعف والقوة ليست صفات منقسمة بوضوح، بل هي متداخلة في نفس الإنسان.
هنا “يضيع التمييز بين الحاكم والسجان والسجين”، فكل منهم يحمل مساحة من الظلام ومساحة من المعاناة. هم “نحن جميعاً بكلِّ حمولاتنا”. وكلُّ شخصية هي مرآة للأخرى، وكلُّ منهم يحملُ “حموله” الخاصة، التي قد تكون حمولة الذنب، أو الخيانة، أو الخوف، أو الحب المستحيل. في هذا العالم الضبابي، يصبح “الحمل عن سابق إصرار” اختياراً جماعياً للعيش في دوامة من العبث والتراجيديا.

صمت يعكس عجز التواصل

يُعزز من هذا المناخ الكابوسي غياب الحوار التقليدي الواضح. فبدلاً من حوارات تُحدد ملامح الشخصيات وتطور الأحداث، نجد سرداً تداعياً داخلياً يختلطُ فيه صوت الراوية مع أصوات الشخصيات الأخرى دون فواصل واضحة. هذا الغياب للحوار ينقل إحساساً عميقاً بالعزلة وعدم القدرة على التواصل الفعال. إنه يعكسُ واقعاً إنسانياً تسوده الأنوية والفردية، حيث يظلُّ كلُّ شخصٍ حبيس عالمه الداخلي، عاجزاً عن فهم الآخر أو إيصال معاناته.

تأويلات “الحمل”

يتسع مجاز “الحمل” في الرواية ليشمل مساحات تأويلية شاسعة من الحمل البيولوجي إلى الحمل الوجودي: الحمل كرمز للمعاناة الأنثوية: قد يكون الحمل هو معاناة المرأة المغيبة، التي تعملُ في “مبقرة” ريفية بعيدة، والتي ترمز إلى الخصوبة المعطلة والإنسانية المهدورة في زمن الحرب. حمل الذنب: قد يكون الحمل هو ثقل الخطيئة أو المشاركة فيها، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد. إنه الحمل الذي لا تستطيع الشخصيات التخلص منه. حمل الذاكرة: وهو عبء الماضي والحرب والذكريات المؤلمة التي تثقلُ كاهلَ الشخصيات وتدفعها إلى حافة الهذيان. وحمل الحب المستحيل: كما في حالة الطبيب الذي يقول: “أنا طبيبٌ مصابٌ بالفقد والحرب، مصابٌ بالهزيمة، وفوق كلّ ذلك مصابٌ بالحب.. فهل من عملٍ جراحي يستاصلُ كلَّ هذا؟!” فالحب نفسه أصبح حملاً ثقيلاً في عالم لا يسمح بتحققه. وكذلك حملُ الانتظار: الانتظار في عالمٍ لا تنتهي

فيه المحن، انتظارُ خلاصٍ لا يأتي، أو نهاية سعيدة تبدو مستحيلة، كما تقول إحدى الشخصيات: “لا تيأس، يا عزيزي الوقت مبكر الآن على النهايات السعيدة.”

على ماذا تمخض الحمل؟!

هذا هو السؤال المركزي الذي تطرحه الرواية وتتركه معلقاً “كغصة في الحلق”. إذا كان الحمل قد تم عن سابق إصرار، فما هي ثمرته؟ الرواية لا تقدمُ إجابةً سهلة. فالنهايات “مواربة” وغير مكتملة. قد يكون المخاض هو هذا السرد نفسه، أو هو عملية إخراج “الخبايا” والمسكوت عنه إلى العلن. وقد يكون المخاض هو الوعي بالمرض، وهو الخطوة الأولى نحو الشفاء، حتى لو كان الشفاء نفسه بعيد المنال. يظهر الواقع في “حمل عن سابق إصرار” هو سجن كبير، كما تقول أحد الاقتباسات: “الحياة خارج السجن في بلادي هي تدريب على دخوله.”، وفي هذا السجن، يصبحُ الموت ليس نهاية طبيعية، بل “نتيجةً للملل”.
بهذه اللغة الشعرية الكثيفة، وذلك الغوص الجريء في مناطق اللاوعي الفردي والجمعي، تقدم هدى فاضل رواية هي أشبه بتشريح نفسي واجتماعي لواقعٍ مأزوم. إنها رواية لا تقرأ للمتعة السهلة، بل للتأمل والوقوف عند أسئلة وجودية عميقة. وهي أقرب لشهادة أدبية قوية على أن أعظم “الحمل” هو ذلك الذي نختاره لأنفسنا، وأن أقسى الألم هو ذلك الذي نعيه تمام الوعي، حيث “أول الألم صراخ، وآخرهُ صمتٌ مطبق”.

Leave a Comment
آخر الأخبار