حول «التعديل الأميركي» لبعثة سوريا الأممية.. نقاط بارزة يتم تجاهلها وماذا في دلالات التوقيت والتسريب؟

مدة القراءة 12 دقيقة/دقائق

الحرية – مها سلطان:
تعددت التحليلات والتوقعات، اختلفت وتوافقت وتقاطعت، بين تهوين وتهويل للإجراء الأميركي المتعلق بتعديل الوضع القانوني للبعثة السورية لدى الأمم المتحدة (والمتعلق تحديداً بتخفيض فئة التأشيرة الممنوحة لأعضاء البعثة من «جي-1» إلى «جي-3» والمرتبط بصورة أساسية بكون الولايات المتحدة الأميركية تستضيف مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وهي نقطة أساسية سنعرضها بتوسع أكبر)..

– تسريب الإجراء جاء في وقت سوري حساس تزامن مع حكومة جديدة وتصعيد اسرائيلي خطير ومع زيارتين مهمتين للرئيس الشرع لتركيا والإمارات

لن نخوض في سياق التحليلات والتوقعات وفي عملية ربطها بالخلفيات السياسية للمحللين والمراقبين، وهي ستستمر لأيام مقبلة وفق طبيعة الإجراءات الأميركية (أو الدولية) التي يمكن تتبع ذلك الإجراء الأميركي، لكن هناك نقاط ثابتة لا بد من إلقاء الضوء عليها، توضيحاً وتفسيراً وتبياناً لبعض مغالطات يتم تداولها، حيث التركيز على جانبين فقط، تهوين وتهويل، مع إغفال سياقات إقليمية لا ينفصل عنها الإجراء الأميركي، هذا من جهة.. ومن جهة أخرى نوع ومسار العلاقات التي تريد الإدارة الأميركية فرضها على سوريا الجديدة، ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية، بل على المستويين الإقليمي والدولي.

– ما تم هو اجراء أميركي قانوني داخلي وليس إجراء أممياً وهو متعلق بأعضاء البعثة الأممية وليس السفارة السورية في واشنطن

– أبرز النقاط
أولاً، الثابت أن الإدارة الأميركية لم تأخذ هذا الإجراء في سياق قانوني أممي عام أو حتى عرفي، وهي التي تركت الباب مفتوحاً على كل أنواع التحليلات والتوقعات، من خلال رفض التعليق، ومن خلال اعتماد التسريب وليس الإعلان الرسمي، والهدف خلق حالة تشويش وإرباك ضاغطة على القيادة السورية وإشغالها بملفات دبلوماسية يُفترض أن العمل عليها يأتي لاحقاً، أي بعد تشكيل الحكومة التي لم يمضِ عليها سوى أيام (الإعلان كان في 30 آذار الماضي). وهناك هدف داخلي يتعلق بخلق حالة من عدم الطمأنينة بين السوريين، وهي بدورها ستكون ضاغطة على القيادة السورية.
ثانياً، الثابت أيضاً هو الرسائل الأميركية المقصودة للقيادة السورية من وراء إجراء إداري أرادته واشنطن بأبعاد سياسية دولية (واقتصادية حكماً) واختارت توقيتاً سورياً حساساً، سواء على المستوى الداخلي بعد تشكيل الحكومة وتأييد السوريين لها، ورفض التدخلات الخارجية فيها لتكون حكومة بأولويات داخلية بالدرجة الأولى ووفق ما تتطلبه عملية النهوض والبناء وليس وفق معايير الحصص والمصالح والمطامع الخارجية..

– من يلوم القيادة في مسألة البعثات فهو قاصر الرؤية لناحية فهم والأولويات والسياسات ويتجاهل أن الحكومة عمرها أيام وأن العمل لا يتم دفعة واحدة ولا بين ليلة وضحاها

– أو على المستوى الإقليمي، مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية واتساع نطاقها، واتخاذها بعداً إقليمياً (تركيا) بما يُضاعف المخاطر والتحديات في وجه القيادة السورية، عدا عن أن التسريب جاء بالتزامن تقريباً مع إعلان الخارجية السورية عن استعداد الرئيس أحمد الشرع للقيام بزيارتين مهمتين للغاية، إلى تركيا والإمارات.. يُضاف إلى ذلك الرسائل التي تم توجيهها إلى سوريا (وتركيا) خلال لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن مساء أمس، حيث بدا أن تركيز إدارة ترامب هو على العلاقة الإسرائيلية التركية في سياق هذه الاعتداءات، والحرص على عدم توترها، وعلى أن أميركا قادرة دائماً على تأمين علاقات جيدة بين إسرائيل وتركيا على الأرض السورية، بمعنى علاقات تقاسم نفوذ. وهذا بحد ذاته رسالة متعمدة إلى القيادة السورية بأن سوريا وسيادتها واستقرارها وأمنها هي هدف ثانوي على هامش الأهداف الأميركية/الإسرائيلية الرئيسية في المنطقة..
– أو على المستوى الدولي في ظل استمرار الانفتاح، خصوصاً الأوروبي، على القيادة السورية. لا شك أن الإجراء الأميركي سيعرقل هذا الانفتاح، أو لنقل إن عدداً من الدول ستتوقف عنده، وتنتظر ما بعده، وقد لا يطول الانتظار، وكل شيء متوقع.
– التوصيف القانوني والسياسي

ثالثاً، ولتوضيح ما تم إغفاله دون أن يعني ذلك التقليل من شأن الإجراء الأميركي وتداعياته.. فإن ما تم إعلانه هو إجراء أميركي (قانوني داخلي) وليس إجراءً أممياً، بمعنى أنه لم يجرِ خفض التمثيل في الأمم المتحدة، وتم تأكيد ذلك وفق المصادر الأممية، ومنها المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون. سوريا ما زالت دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة. ما جرى متعلق بالتأشيرات وتقييد تحركات أعضاء البعثة داخل الولايات المتحدة لحين صدور «سمات» جديدة لهم وفق التمثيل الذي انتقل من نظام إلى نظام (علماً أن البعض تحدث عن أن التقييد ينسحب على مقرات الأمم المتحدة). أيضاً ما جرى هو خفض تمثيل متعلق ببعثة سوريا بالأمم المتحدة وليس بالسفارة السورية في أميركا (وإن كانت مغلقة- كمبنى- حالياً). هذه المسألة تقودنا إلى أخرى قديمة جديدة، يتم طرحها بصورة دائمة ومن جميع الدول بما فيها الكبرى، وهي متعلقة بمسألة التأشيرات المرتبطة بأعمال واجتماعات الأمم المتحدة. جميع الدول تقريباً تعاني من هذا المسألة (خصوصاً الدول التي تصنفها أميركا في خانة العدو أو الخصم وعلى رأسها روسيا والصين وإيران وغيرها). أميركا تتحكم بالكامل بهذه التأشيرات، كونها دولة المقر، وسبق أن رفضت في حالات كثيرة منحها لممثلي دول تفرض عليها حصاراً وعقوبات، وإيران أبرز مثال. ووصل الأمر إلى درجة مطالبة الدول (وعلى رأسها روسيا) بنقل مقر الأمم المتحدة من نيويورك، وإجراء إصلاحات على هيئاتها، خصوصاً مجلس الأمن، في سبيل التخلص من الهيمنة الأميركية. اليوم سوريا تجد نفسها في الوضع ذاته وتتعرض للضغوط ذاتها.
رابعاً، إذا ما انسحب الإجراء الأميركي على السفارة السورية في واشنطن فعندها يمكن الحديث عما يُسمى «أقصى الضغوط» وعن توجه أميركي رسمي كامل لعدم الاعتراف بالقيادة السورية الجديدة، أما الآن فما زالت المسألة عند حدود التفاوض والضغوط . وبخصوص من يتناول الإجراء باعتباره ضد بعثة قديمة تمثل النظام السوري السابق، ولا بد من اعتماد بعثة جديدة، فهذا نظرة محدودة وقاصرة للهدف الأميركي، خصوصاً وأن الإدارة الأميركية تركت المجال مفتوحاً للعودة عنه عندما ألمحت إلى مسألة منح «سمات» جديدة، وعندما لم توضح ما إذا كان إجراء يصب في نهاية المطاف عند حدود الاعتراف أو عدم الاعتراف، بل تركته للمحللين الذين بدورهم لم يتفقوا على تحديده.

– المُعلن والمضمر
خامساً، ولمن يتناول المسألة من حيث التسميات التي تطلقها الإدارة الأميركية على القيادة السورية الجديدة، فهذه التسميات خاضعة لمسار السياسات الأميركية المتدرجة حيال الدول التي هي في دائرة المصالح والمخططات الأميركية المباشرة، بمعنى الآنية، وهنا تشكل سوريا أولوية فيما يخص الشرق الأوسط. هذا التسميات المتدرجة هي دائماً باتجاهين، إيجابي وسلبي، وفق ما تفرزه عملية الضغوط. وبالعموم أميركا لم تعترف رسمياً حتى الآن بالقيادة السورية الجديدة لكن هذا لا يدلل بصورة ثابتة على حقيقة السياسات الأميركية تجاهها، فهي وإن كانت تظهر تشدداً في مسألة الاعتراف إلا أنها بالمقابل ترعى الكثير من الإجراءات والتحركات التي تعزز موقع هذه القيادة، إذا ما عدنا إلى ذلك الاتفاق الذي رعته بينها وبين «قسد».. (طبعاً هذا لا ينفي أهدافاً أخرى للاتفاق بعضها متعلق بتركيا خصوصاً). أيضاً هناك التصريحات الأميركية الأخيرة التي تم وضعها في سياق إيجابي ضمن ما سمته واشنطن مراجعة شاملة لمسألة العقوبات (ولمجمل السياسات المتعلقة بسوريا) ومن ضمنها أيضاً ترحيب أميركي مُعلن بتشكيل الحكومة السورية. هذه ليست مواقف مزدوجة بقدر ما هي مواقف متدرجة محسوبة تحكمها المصالح الأميركية وسبل ترجمتها واقعاً.
سادساً، وعطفاً على ما سبق، لا يمكن بالمطلق النظر إلى الإجراء الأميركي على قاعدة النيات الحسنة والخوف على السوريين ومصالحهم في ظل ما تدعيه سلطة ترامب حول «سلطة فئوية» تحكم سوريا. لا يخفى على أحد الدوافع والأهداف الأميركية، وإذا كانت القيادة السورية تعلق بشكل محدد ومختصر جداً، وحسب الحاجات والضرورات، فهذا لا يعني أنها بلا توجهات واضحة للتعامل مع الإجراءات الأميركية. القيادة السورية الجديدة ومنذ اليوم الأول تركز على الأفعال وليس على الأقوال، وهي وإن كانت تعلق أهمية كبيرة على العلاقة مع أميركا وعملية رفع العقوبات إلا أنها بالمقابل (حتى الآن) تتعامل ببراغماتية لا تخلو من استقلالية واضحة.
– أخيراً
لمن يلوم القيادة السورية على مسألة الابقاء على البعثات الدبلوماسية في الخارج باعتبارها بعثات تتبع للنظام السابق، أو عدم إيلاء هذه الموضوع أهمية كافية، فهذا لومٌ متطرف قاصر الرؤية، أولاً لأن القيادة السورية تعيد ترتيب السياسات وفق الأولويات والضرورات، وهي هنا تركز على ترتيب البيت الداخلي، علماً أنها تدير كلا المستويين، الداخلي والخارجي، وإن كان الداخلي يتقدم بصورة أوسع وأكثر متانة، وهذا منطقي ومفهوم ويُحسب للقيادة.

ثانياً، الحكومة السورية لم يمضِ على تشكيلها سوى أيام، والعمل لا يتم بين ليلة وضحاها، ولا يتم دفعة واحدة، فكيف إذا كانت معظم الملفات التي تتصدى لها من النوع عالي التحديات والمخاطر.
ثالثاً، من المجحف القول عنها بعثات تمثل النظام السابق أو ما زالت تدين بالولاء له. هذه البعثات والعاملين فيها اختاروا البقاء ومواصلة العمل وهذا يعني أنهم يدينون بالانتماء والولاء لسوريا الدولة والمؤسسات وليس للأنظمة، ويعني أنهم اختاروا أن يكونوا سنداً لسوريا وقيادتها الجديدة. قد يكون هناك حالات متفرقة ولكنها ليست قاعدة عامة ولا يجوز وسم الجميع بها. القيادة السورية هي على الأكيد في صورة هذه المسألة وهي تدير ملف البعثات الدبلوماسية بكثير من العناية والاهتمام، وإن كانت لا تعلن عن ذلك.
رابعاً، الخارجية السورية لم تتجاهل ولم تنتظر طويلاً للتعليق على الإجراء الأميركي ولتوضيح مسارات العمل على المستوى الدبلوماسي منعاً لمزيد من اللغط والمغالطات. وحسب وزير الخارجية أسعد الشيباني – في تغريدة له على منصة إكس – وبتوجيهات من الرئيس الشرع « شرعنا في إعادة هيكلة سفاراتنا وبعثاتنا الدبلوماسية بما يضمن تمثيلاً مشرفاً للجمهورية العربية السورية وتقديم خدمات متميزة للمواطنين السوريين في الخارج».
وكانت وزارة الخارجية أكدت في وقت سابق على أن الإجراء الأميركي هو تقني إداري بحت ولا يعكس أي تغيير في الموقف الأميركي من الحكومة السورية الجديدة. ونوه مصدر فيها إلى أن الوزارة على تواصل مستمر مع الجهات المعنية لمعالجة هذه المسألة وتوضيح السياق الكامل لها، بما يضمن عدم حدوث أي التباس في المواقف السياسية أو القانونية ذات الصلة، مؤكداً الالتزام بمواصلة العمل الدبلوماسي، والتنسيق ضمن الأطر الدولية، لتحقيق تطلعات الشعب السوري في بناء وطنه.
وأشار المصدر إلى أنه «يتم العمل حالياً على مراجعة شاملة لوضع بعثاتنا في الخارج، وسيتم الإعلان قريباً عن قرارات جادة تتعلق بإعادة ترتيبها وتنظيمها، بما يعكس تطلعات السوريين، ويعزز حضور مؤسساتنا وبعثاتنا على الساحة الدولية، وبما يضمن كفاءة الأداء ووضوح التمثيل السياسي».

Leave a Comment
آخر الأخبار