خريطة طريق متوازنة لالتقاط مسارات الإصلاح والبناء في سوريا الجديدة… خبير وأكاديمي يعلن التحدي مع استحقاقات عميقة على طريقة «نكون أو لا نكون»

الحرية – نهى علي:

أجمعت كل أو معظم آراء الباحثين التنمويين والأكاديميين، اليوم وفي السابق، على أن مشكلة الاقتصاد السوري تتمثل بعنوان عريض هو “الإخفاق في تنظيم وإدارة الموارد”.
وإن كان أكاديميون قد تبنّوا مثل هذا التشخيص، فإن بعضهم يمتلك رؤية تصويب وإصلاح يُفصح عنها بطريقة ممنهجة وواضحة، ولعلهم بذلك يساهمون بتحقيق قيمة معرفية مضافة، يضعونها أمام صاحب القرار، للاستفادة منها في صياغة الأفق القادم للبلاد.

د. سلمان ريّا: الاقتصاد السوري على مفترق حاسم..ولم يعد ممكناً الاكتفاء بالاستجابات الظرفية وسياسات تقليدية

مرحلة حسّاسة

لا يخفي الدكتور المهندس البحري سلمان ريا، إدراكه لحساسية المرحلة.. مرحلة الإعداد لسوريا المستقبل، إذا يرى أن الاقتصاد السوري يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، حيث لم يعد ممكناً الاكتفاء بالاستجابات الظرفية أو السياسات التقليدية لمعالجة تبعات عقد من الحرب والانكماش الهيكلي.

إعادة هندسة

ويجزم في تصريح لصحيفتنا “الحرية” بأنه يتحتّم، في المرحلة الراهنة، إعادة هندسة شاملة لبنية الدولة الاقتصادية، تتجاوز الاعتبارات المركزية الجامدة نحو نموذج أكثر مرونة وفعالية، تتكامل فيه الرؤية التنموية مع مقتضيات التوازن الجغرافي والتوزيع العادل للموارد.

د. ريا: مطلوب إعادة هندسة شاملة تتجاوز الاعتبارات المركزية الشاملة نحو نموذج أكثر مرونة لبنية الدولة الاقتصادية

في هذا السياق، تُطرح اللامركزية الإدارية والاقتصادية لا كخيار تقني فحسب، بل كخيار استراتيجي لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتفعيل آليات النمو المحلي كمدخل لاستعادة النشاط الاقتصادي الكلّي.

نفض غبار المركزية

وبشفافية يُعلن د. ريّا أن المركزية المفرطة، شكّلت عبر عقود، أحد أبرز معوقات التنمية المستدامة في سوريا، إذ أفضت إلى تراكم التفاوت البنيوي بين المحافظات، وقيّدت المبادرات الإنتاجية خارج العاصمة والمراكز الكبرى.

د. ريا: اللامركزية الإدارية والاقتصادية خيار استراتيجي لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع

وهو يرى أن تجاوز هذه المعضلة يستلزم تمكين الوحدات الإدارية من أدوات تخطيط وإنفاق مستقلة نسبياً، ضمن إطار وطني موحد، بما يتيح خلق بيئات محلية ديناميكية تتمتع بهامش من الاستقلالية التنفيذية، وتكون أكثر قدرة على اجتذاب الاستثمارات وتوليد فرص العمل.
وينبّه إلى أن هذه اللامركزية يجب ألا تُفهم كعملية تفكيك للمركز، بل كعملية عقلنة لأدواره، وتحفيز لديناميات اقتصادية أكثر تجذراً في النسيج المحلي.

استثمار الجغرافيا

بالطبع كل ذلك يأتي في سياق رؤية شاملة من وجهة نظره، يتكامل فيها هذا التحول البنيوي مع ضرورة استثمار الموارد الجغرافية غير المستغلة، وفي مقدمتها الواجهة البحرية لسوريا على البحر المتوسط، التي ظلت حتى اليوم رهينة الإهمال وسوء الإدارة.

د. ريا: ضرورة استثمار الموارد الجغرافية غير المستغلة وفي مقدمتها الواجهة البحرية لسوريا

فالإمكانات الاقتصادية الكامنة في هذا الشريط الساحلي، الممتد لأكثر من 180 كيلومتراً، تتيح فرصاً استراتيجية لإعادة تموضع سوريا على خريطة الاقتصاد الإقليمي والدولي.

وذلك يشمل إعادة تأهيل المرافئ التجارية الكبرى، وتوسيع قدراتها اللوجستية لتكون نقاط عبور فعالة للبضائع، وربط المرافئ البحرية بالمرافئ الجافة التي يمكننا إقامتها قرب نقاط العبور مع دول الجوار بالتعاون مع شركات دولية ناجحة، كما حصل مع محطة حاويات اللاذقية، وما يحصل في محطة مرفأ طرطوس، حيث يتم ذلك بالتوازي مع تطوير الصناعات البحرية مثل المدينة الصناعية البحرية في بانياس، ومرفأ المواد الكيميائية بالقرب من الحدود اللبنانية، والصيد الساحلي ضمن سلاسل ذات قيمة متكاملة.

السياحة والقيمة المضافة

في سياق موازٍ.. يؤكد د. ريّا أن القطاع السياحي الساحلي يمثّل رافعة محتملة للنمو، إذا ما جرى تحفيزه بمشروعات مستدامة تدمج الجمال الطبيعي بالبنية التحتية الحديثة.
وفي العمق، يُمكن للثروات الباطنية في المياه الإقليمية، ولا سيما الغاز والنفط، أن تشكل ركيزة للسيادة الطاقية، شرط توفير بيئة تشريعية استثمارية مستقرة وجاذبة.

إصلاح إداري

هي رؤية استراتيجية بالفعل لكن لا يمكن إنفاذها على الأرض من دون توطئة وإعداد البيئة المشجعة.
إذ يوضح الدكتور سلمان ريّا أن تفعيل هذه الرؤية يظل مشروطاً بإصلاح إداري عميق يعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومؤسساتها التنفيذية.

د. ريا: لا بد من إصلاح إداري عميق يعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومؤسساتها التنفيذية

ويقتضي ذلك تحديث السياسات العامة على نحو يسمح للمجتمعات المحلية بتحديد أولوياتها الاقتصادية، وتطوير الأطر القانونية لتكريس توازن وظيفي بين المركز والمحيط، وتمكين البلديات من القيام بأدوارها التنموية، لا بصفتها وحدات تنفيذية تابعة، بل كفاعلين اقتصاديين مستقلين نسبياً. كما أن محاربة الفساد المؤسسي، وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة، تمثل شرطاً لا غنى عنه لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة.

الموارد البشريّة

بموازاة الإصلاح المؤسسي، يشدد د. ريا على العامل البشري كعنصر مفصلي في عملية النهوض الاقتصادي.

ويرى أنه من دون نظام تربوي يعيد إنتاج قيم العمل والمواطنة والمسؤولية، ويؤسس لثقافة مدنية حديثة، ستظل أي محاولة للتنمية معرضة للفشل البنيوي.. كما يُعد المجتمع المدني رافعة مكمّلة لهذه العملية، من خلال دوره في إطلاق المبادرات المحلية، ومراقبة الأداء الحكومي، وتشكيل فضاء تواصلي بين الدولة والمجتمع، يعزز التوازن ويمنع الاحتكار.

فسوريا لا تحتاج إلى حزمة إصلاحات آنية، بل إلى عقد اقتصادي – وفق توصيف د. ريا – عقد اقتصادي جديد يُعيد تعريف وظيفة الدولة، ويوازن بين الكفاءة والعدالة، ويُخرِج السياسات الاقتصادية من أسر المركزية الضيقة إلى رحابة التكامل الوطني. فاللامركزية ليست مجازاُ بيروقراطياً، بل خيار بنيوي لتحرير الطاقات المعطلة، وبناء دولة مرنة، منتجة، ومتجددة. أما الاستثمار في البحر، فليس مجرد مشروع قطاعي، بل رؤية استراتيجية لفتح نوافذ على العالم وإعادة إدماج سوريا في الحراك الاقتصادي الدولي.

ويختم د. ريا حديثه لصحيفتنا بخلاصة مفادها أن: اللحظة الراهنة لحظة مفصليّة، تضع سوريا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما مواصلة الدوران في فلك الأزمة، وإما الانطلاق برؤية جريئة نحو بنية اقتصادية جديدة تؤسس للتعافي والنمو والكرامة الوطنية.