خسارة عدد كبير من الحيوانات البرية.. حرائق غابات اللاذقية تدق جرس إنذار بيئي خطير

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – نهلة أبو تك:

اجتاحت الحرائق غابات الساحل السوري خلال الأيام الماضية، وامتدت ألسنة اللهب من التلال إلى السهول، لتأتي على مساحات واسعة من الغطاء النباتي، وتحيل الطبيعة الخضراء إلى رماد. خلّفت النيران وراءها مشاهد مأساوية، لم تقتصر على الأشجار المشتعلة، بل شملت كائنات برية نادرة فرت مذعورة من موائلها، وبعضها نفق قبل أن يتمكن من النجاة.

مقاطع مصوّرة وثقت نفوق عدد من الغزلان والضباع

وتحوّل هروب الحيوانات، مثل غزال اليحمور الذي ظهر مؤخرًا في بساتين رأس الشمرا، إلى جرس إنذار بيئي خطير، يؤكّد أن الكارثة لم تصب الطبيعة فحسب، بل أصابت التوازن الحيوي والإنساني في العمق.

أرقام تقرع ناقوس الخطر

تشير التقديرات البيئية إلى أن الحرائق الأخيرة التهمت أكثر من 10 آلاف هكتار من المساحات الحراجية في الساحل، وهو ما يعادل ضعفي مساحة مدينة اللاذقية. وتُقدّر الخسائر المادية بأكثر من 150 مليون دولار، ناهيك بفقدان آلاف المواطنين لأرزاقهم، وخسارة حوالي 6% من الغطاء النباتي في البلاد.

هذا الدمار، وفق خبراء البيئة، لا يمكن تعويضه في المدى القريب، بل يحتاج إلى استثمارات ضخمة وجهود تمتد لسبعين عامًا على الأقل، لإعادة ترميم الغابات واستعادة التوازن البيئي.

الكائنات تهرب

النار لم تلتهم الأشجار فقط، بل اجتاحت مواطن الحياة البرية. ففي فصل الصيف، حيث تنجب الثدييات الكبيرة صغارها، وجدت هذه الكائنات نفسها عاجزة عن الفرار. وقد وثّقت مقاطع مصوّرة نفوق عدد من الغزلان والضباع، في مشهد مؤلم لهواة الطبيعة والمهتمين بالتنوع الحيوي.
يشرح الدكتور محمود علي، أستاذ البيئة وحماية الغابات في كلية الهندسة الزراعية بجامعة اللاذقية، قائلاً: “الثدييات الصغيرة مثل الأرانب والسناجب غالبًا ما تُحاصر وتموت حرقًا، أما الزواحف والبرمائيات، فتُقتل نتيجة ارتفاع حرارة الجحور إلى درجات قاتلة. كما تقضي النيران على بيوض وصغار الطيور في الأعشاش، ما يؤثر على دورة الحياة الطبيعية لمواسم كاملة.”
ويضيف أن الأثر غير المباشر يتمثل في فقدان الغذاء والمأوى، ما يضاعف خطر الانقراض للكائنات الضعيفة.

اليحمور السوري يظهر من بين الرماد

في تطوّر نادر، رُصد ظهور غزال اليحمور السوري في بساتين رأس الشمرا شمالي اللاذقية، وهو من الأنواع الخجولة والمهددة بالانقراض. وقد اعتبر سكان المنطقة هذا الظهور مفاجئًا، إذ لم يعتادوا على رؤية هذا الحيوان خارج الغابات.

ويعلّق الدكتور أسامة رضوان، الخبير في إدارة الغابات قائلاً: “فرار الغزال من مناطق الحريق إلى البساتين السكنية دليل على حجم الضغط الذي تتعرض له الحياة البرية. وظهور كائنات نادرة في بيئات غير مألوفة يُعد ناقوس خطر يتطلب تدخلًا عاجلًا من الدولة والمجتمع معًا.”

التأثير يمتد إلى الاقتصاد والسياحة

لم تتوقف الخسائر عند الغابات والحيوانات، بل امتدت إلى القطاعات الزراعية والسياحية. فقد تعرضت المحاصيل الزراعية لأضرار كبيرة، وتلفت أعداد هائلة من خلايا النحل، ما سيؤثر على إنتاج العسل المحلي، ويتوقع أن يرفع أسعار المواد الغذائية خلال الأشهر المقبلة.
كما تراجع الإقبال على المناطق السياحية الجبلية، بسبب الدخان الكثيف والتلوث البيئي، ما زاد من معاناة سكان الريف الذين يعتمدون على السياحة البيئية كمصدر دخل موسمي.

دعوات لإدارة مستدامة ومجتمعات شريكة

يؤكد الدكتور رضوان أن الأزمة الحالية “تهديد وطني” يجب التعامل معه بجدية، ويقول: “ما لم تُعتمد إدارة علمية مستدامة، وتُشرك المجتمعات المحلية في الحماية، فإن الخطر سيبقى قائمًا، والمستقبل الأخضر لسوريا سيكون في مهب الريح.”
ويشدد على ضرورة إنشاء فرق طوارئ بيئية، وتزويدها بالتقنيات الحديثة لرصد ومكافحة الحرائق مبكرًا، بالإضافة إلى تعزيز برامج توعية المجتمعات المحلية بضرورة الإبلاغ عن الحرائق والتصرف السليم عند اندلاعها.

فرصة للبناء

رغم حجم الدمار، يرى البعض أن الكارثة قد تكون فرصة لإعادة تقييم العلاقة مع الغابة، ليس باعتبارها مجرد مورد طبيعي، بل كجزء من هوية وطنية وحضارية. فالغابة ليست فقط موطنًا للحيوانات والنباتات، بل أيضًا رمز للأمان البيئي، ودرع ضد التصحر والجفاف.
وتبقى الغابة اليوم بحاجة إلى من يحميها، قبل أن تُصبح ذكرى في الوجدان وندبة في جسد الوطن.

Leave a Comment
آخر الأخبار