الحرية ـ نهلة أبو تك:
يعيش طلاب اليوم نظاماً تعليمياً يستهلكهم على مدار ساعات طويلة، إذ يخرج الطالب من دوام مدرسي مرهق ليواجه في المنزل دواماً آخر أثقل عبر الدروس الخصوصية والواجبات المكثفة. هذا التراكم لا يرهق الجسد فقط، بل يطفئ شغف التعلم ويحوّل التعليم إلى سباق درجات مؤقتة، ويدفع الطالب إلى الاعتماد على الحفظ المؤقت بدل الفهم العميق. في الوقت نفسه، يعيش الأهالي قلقاً مستمراً من ضعف العلامات أو الفشل في سد فجوات التعلم، ما يضاعف الضغط على الأطفال ويجعل المنزل امتداداً للمدرسة، بدلاً من أن يكون مكان راحة وتوازن.
تراكم الضغوط بين المدرسة والمنزل
تحذّر الأخصائية التربوية رنا يزبك من الحلقة المفرغة التي يعيشها الطالب: “دوام طويل في المدرسة، ثم واجبات منزلية، ثم دروس خصوصية غالباً لسد فجوات سببها الإرهاق نفسه. الطفل بحاجة إلى استراحة ذهنية لترسيخ ما تعلمه، أما الدروس الخصوصية الحالية فهي امتداد للضغط لا للتعليم. وتشير رنا إلى أن هذا الأسلوب لا يقتصر تأثيره على التحصيل الدراسي، بل يمتد إلى الصحة النفسية للطفل، فيزيد من القلق والتوتر، ويقلّل الرغبة في التعلم والاكتشاف، ويؤدي في بعض الحالات إلى فقدان الثقة بالنفس عند مواجهة الامتحانات.
توضح المعلّمة عفراء أن المشكلة تبدأ منذ الصفوف الابتدائية: أطفال الابتدائي لا يستطيعون متابعة يوم دراسي طويل، فكيف ننتظر منهم ساعات إضافية في المنزل؟ يصل التلميذ منهكاً، والواجبات والدروس الخصوصية تزيد الطين بلّة. وتؤكد أن الكثير من الأهالي يظنّون أن الكم يعوّض الفهم، بينما النتيجة غالباً عكسية. وأشارت إلى أن الأطفال في هذه المرحلة يحتاجون إلى نشاطات حركية وفنية لتنمية مهاراتهم العقلية والاجتماعية، وليس لمزيد من الحفظ والمراجعة المكثفة.
يرى الأستاذ نعيم، مدرس الفيزياء، أن المرحلة الثانوية تحمل ضغطاً مضاعفاً: “نصل إلى الحصة الأخيرة، فنجد الطالب مستنزفاً ذهنياً، ثم يعود ليأخذ درس فيزياء أو رياضيات في المنزل! العقل في هذه الحالة لم يعد قادرًا على التعلم الفعلي، بل على الحفظ المؤقت للامتحانات فقط. ويشير نعيم إلى أن هذا الأسلوب يحول التعليم إلى سباق درجات، ويعيق تنمية مهارات التفكير النقدي والتحليلي، ويقلّل قدرة الطالب على ربط المعلومات ببعضها وفهمها بعمق. ويضيف: الاعتماد على الدروس الخصوصية لحل الامتحانات وحدها يقتل فضول الطالب وشغفه بالمعرفة.
يقول طالب في الصف السادس: أعود من المدرسة مرهقاً، أتناول الغداء، ثم أذهب مباشرة إلى الدرس الخصوصي. لا وقت للراحة ولا للعب. طفولتي تضيع بين المدرسة والدرس، ونعيش ضغطاً كبيراً من أجل العلامات. لم أعد أحب المدرسة… صار الواجب عبئاً وأشعر بالخوف منها. ويعكس حديث الطالب كيف أن الضغط المستمر يجعل الأطفال يفقدون شغفهم بالتعلم، ويزيد القلق ويؤثر على أدائهم رغم ساعات الدراسة الطويلة.
بينما يعاني طلابنا من ساعات دوام مضاعفة، تعتمد أنظمة تعليم رائدة مثل دول أوربية متطورة في مجال التعليم مبدأ الساعات الذكية بدل الساعات الطويلة، حيث تشمل دوام قصير وحصص مركّزة، واجبات منزلية أقل وفعّالة، راحة ذهنية منتظمة خلال اليوم الدراسي، واعتماد نادر على الدروس الخصوصية. وفلسفة هذه الدول بسيطة: طفل مرتاح = عقل قادر على التعلم الفعّال. وهذا يشير إلى أن جودة التعليم لا ترتبط بطول اليوم الدراسي، بل بكيفية استثمار الوقت والتركيز على الفهم والمهارات وليس الحفظ فقط.
حسب آراء المعلمين والخبراء التربويين، أسباب إرهاق الطلاب تتلخص في دوام مدرسي أطول من قدرة الطفل الطبيعية، تراكم واجبات منزلية غير ضرورية، تضخم الدروس الخصوصية لسد الفجوات، ضغط الأهل خوفاً من ضعف العلامات، مناهج تعليمية تعتمد الحشو بدل المهارات، غياب راحة ذهنية لاستيعاب المعلومات، واختفاء وقت اللعب والهوايات والحركة. هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى فقدان الطالب شغفه بالتعلم، وزيادة التوتر والقلق، وحتى أحياناً الإصابة بأعراض جسدية مرتبطة بالإرهاق المستمر مثل الصداع والتعب المزمن.
تشدد الأخصائية التربوية رنا يزبك على ضرورة كسر دائرة الإرهاق وتحقيق تعلم متوازن للطلاب، وتقول:
للتخفيف من الضغط على الطالب، يجب تنظيم وقت الدراسة بطريقة متوازنة بين المدرسة، الواجبات، الدروس الخصوصية، والراحة، مع مراعاة عدم تحميل الطفل أكثر من طاقته. من المهم اعتماد فترات راحة قصيرة بين الحصص والدروس المنزلية لإتاحة الفرصة للعقل لاستيعاب المعلومات، والتركيز على الجودة لا الكم، أي تشجيع التعلم الفعّال والفهم العميق بدل الحفظ السطحي. كما أوصي بتعليم الطلاب مهارات تنظيمية لتقسيم المواد والمهام الكبيرة إلى أجزاء أصغر يسهل التعامل معها، وتشجيع النشاطات الحركية والفنية يومياً لتفريغ الطاقة وتحفيز التفكير الإبداعي، والتواصل الإيجابي معهم لتقليل الضغط النفسي.