الحرية – سراب علي:
تعيش المرأة في اللاذقية اليوم مرحلة انتقالية تعيد رسم ملامح دورها في المجتمع، بين حرية التعبير، والمشاركة في إدارة القرار، وقيادة المشاريع الاقتصادية، برزت المرأة كفاعل أساسي لا يمكن تجاوز دوره في بناء مستقبل اللاذقية وسوريا، ومع استمرار الدعم المؤسسي والمجتمعي، تبدو آفاق المشاركة النسائية أوسع من أي وقت مضى.
فكيف عززت تجربة الحرب والثورة وما رافقها من تحديات موقع المرأة ، وكيف حولتها من عنصر مساند إلى شريك في بناء المجتمع وصياغة مستقبله؟
تحوّل النظرة المجتمعية
توضح المدربة في إدارة الكوارث والأزمات الدكتورة لمى منلا المتخصصة في علم السكان والتنمية والدعم المجتمعي أنه لم تكن خلال سنوات الثورة مجرّد متلقٍّ للحدث، بل كانت جزءاً أساسياً في الحفاظ على تماسك الأسرة والمجتمع، فقد فرض غياب عدد كبير من الرجال بسبب الاعتقال أو الشهادة أو الهجرة أو غيابهم عن دورهم الاقتصادي واقعاً جديداً شكّل ما يمكن تسميته بـ«اقتصاد المُعيلات»، حيث كانت النساء العمود الأكثر ثباتاً في مواجهة الفوضى والانهيار.
وتؤكد د. منلا أنّ المجتمع وجد نفسه أمام دور نسائي مختلف يعيد تعريف مفاهيم «المركز» و«القدرة». فالنساء قدن مبادرات إغاثية، ونظّمن التعليم غير الرسمي، وأدرن جهود الاستجابة الطارئة في غياب المؤسسات، ما منحهن شرعية اجتماعية جديدة لم تكن متاحة قبل الثورة.
شريكة في إعادة البناء
تشير د.منلا إلى أن مرحلة ما بعد التحرير عزّزت حضور المرأة في الفضاء العام، فلم تعد مشاركتها رمزية أو ثانوية، توسعت فرصها في العمل المدني، وفي إدارة المبادرات والمشاريع المجتمعية، كما باتت خبراتها جزءاً من آليات التخطيط المحلي وتنظيم الخدمات.
د منلا: انتقلت من إدارة الأزمة إلى بناء المستقبل
وأضافت: لا بد من الإقرار بأن دور النساء في المحافظة ما زال بحاجة للمزيد من التمثيل، إلا أن مؤشرات التقدم واضحة، ففي انتخابات مجلس الشعب بعد التحرير شاركت 11 سيدة من أصل 44 مرشحاً، وتم التركيز على المشاركة الفعالة في كل مكان تتواجد فيه المرأة السورية، وتمكنت امرأة واحدة من الفوز بمقعد من أصل سبعة، وهو رقم يعكس بداية حقيقية لكنه يسلط الضوء أيضاً على الحاجة لمزيد من التمكين والتمثيل الفعلي.

مساحة جديدة بصوت المرأة
تُبرز منلا الفرق الكبير بين واقع المرأة قبل التحرير وبعده، ففي عهد النظام البائد كان الصوت مراقَباً والرأي مُصادَراً، وكانت مشاركة النساء محكومة بثقافة الخوف والرقابة ،وبعد التحرير اختبرت النساء للمرة الأولى شعور القدرة على التعبير بحرية والمشاركة في صنع الخطاب العام، لم يعد الحضور النسائي في المجال العام مرتبطاً بالولاء أو الصمت، بل بات جزءاً من عملية إعادة بناء الوعي المجتمعي، وإعادة تشكيل المجال السياسي والاجتماعي في اللاذقية.
من الاستجابة إلى صناعة البدائل
ولفتت د. منلا إلى أنه مع انفتاح الفضاء العام، بدأت تظهر مبادرات اقتصادية واجتماعية نسائية قادتها نساء اكتسبن مهارات قيادية خلال سنوات الثورة، أطلقت العديد منهن مشاريع صغيرة في الإنتاج المنزلي، والصناعات الغذائية، والحرف، والتعاونيات، ما أعاد تنشيط الاقتصاد المحلي على مستوى الأحياء والبلدات.
وتشير منلا إلى أن تأسيس الأعمال بات أسهل بفضل برامج الدعم الحكومي والتدريب والتمكين الاقتصادي التي بدأت بالتشكّل، وإن كانت لا تزال بحاجة إلى تعزيز مؤسسي أكبر لضمان الاستدامة وتعد مشاركة النساء في الأسبوع الريادي السوري مثالاً واضحاً على انفتاح باب ريادة الأعمال أمام النساء والفتيات.
لسنا مجرد متلقيات للتغير
وأمام هذا تنصح د. منلا السيدات والفتيات السوريات اليوم بأن يستثمرن قدراتهن المتراكمة وخبراتهن المكتسبة خلال سنوات الثورة، فهي الأساس الذي يمنحهن الشرعية والقدرة على الانطلاق نحو أدوار فاعلة في المجتمع، ما امتلكن من مهارات قيادية، إدارة أزمات، وتنظيم مبادرات مجتمعية، بالإضافة إلى صمودهن في مواجهة التحديات، يُعد رصيداً حقيقياً يمكِّنهن من تأسيس مشاريع اقتصادية، والمساهمة في صنع القرار المحلي، وبناء روابط اجتماعية متينة لجميع أطياف المجتمع السوري، ولا بد هنا من التأكيد على ضرورة الاستفادة من الدعم الحكومي المقدم للسيدات والفتيات السوريات والدعم في مؤسسات المجتمع المدني وهذه الخبرات المتراكمة التي إن تم استثمارها تُحوّل النساء من مجرد متلقيات للتغير إلى محركات فعلية لإعادة بناء المجتمع، ما يجعل مشاركتهن اليوم ليس اختياراً فحسب، بل ضرورة لبناء مرحلة جديدة تعتمد على قدراتهن وإبداعهن في صياغة مستقبل اللاذقية وسوريا بشكل عام.
التحول المجتمعي
بدورها لفتت الأستاذة الجامعية ندى محمد منزلجي إلى أنه مع إشراقة ذكرى التحرير، تستعيد الذاكرة مشهد التحول المجتمعي الكبير الذي عاشته اللاذقية، حيث برز دور المرأة بشكل لافت ليس كمتلقٍ فحسب، بل كفاعلة أساسية في رسم ملامح المرحلة الجديدة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
هنا، تروي السيدة ندى منزلجي جانباً من هذه الرحلة، مؤكدةً أن التغيير لم يكن طفرة عابرة، بل كان تحولاً جوهرياً طال النسيج المجتمعي ووعيه.
من التردد إلى التمكين
تشير منزلجي في حديثها لـ”الحرية” إلى أن نظرة الشك والتردد التي لازمت تقييم قدرات المرأة لسنوات طويلة، تحولت بفعل تجارب السنوات الصعبة إلى يقين مجتمعي، فقد أثبتت المرأة السورية، عملياً، قدرتها على تحمل المسؤولية وإدارة شؤون الحياة بمختلف تعقيداتها، وتلاحظ أن المرحلة الحالية كرست مفهوم الشراكة الحقيقية للمرأة، بعد أن كانت مقيدة بأدوار مساعدة أو هامشية، لتصبح اليوم شريكاً فاعلاً في البيت والعمل وكل مجالات الحياة العامة.
من الظل إلى مراكز صنع القرار
وتستعرض منزلجي المشهد الحالي في اللاذقية، الذي يتميز بحضور نسائي لافت في اللجان والمبادرات والمشاريع المحلية، قائلة: أرى اليوم نساءً يقدن من مواقع صنع القرار، ويشاركن بفاعلية في عملية إعادة البناء والتنمية، وتعتبر أن هذا الحضور ليس ترفاً، بل ضرورة لبناء مجتمع متكامل، وخاصة أن المرأة كانت حجر الزاوية في الصمود خلال الأوقات العصيبة.
وتطرقت في حديثها إلى أحد أبرز مكاسب المرحلة، وهو توسيع هامش حرية التعبير للمرأة، فبعد سنوات من الشعور بالقيد، أصبح صوت المرأة مسموعاً وأكثر تأثيراً، في مناخ من النقاش المسؤول والدفاع عن الحقوق، هذا التحول في حد ذاته، كما ترى منزلجي، يمثل قفزة في الوعي والسلوك الاجتماعي العام.
نماذج ملهمة ونهضة حقيقية
تستشهد منزلجي بالطفرة الملحوظة في المشاريع النسائية الصغيرة والمتوسطة في اللاذقية، من الصناعات المنزلية والحرفية إلى التجارة الإلكترونية وقطاع الخدمات. وتقول: “النساء أثبتن قدرة استثنائية على خلق اقتصاد حيوي ومؤثر، بدأن بعضه من الصفر، واليوم يدُرْنَ أعمالاً قائمة بذاتها، ويعتمدن على أنفسهن بشكل كامل.
وترجع منزلجي أسباب هذه النهضة الاقتصادية النسائية إلى عاملين: الأول هو تغير العقلية المجتمعية التي أصبحت أكثر تقبلاً واحتفاءً بدور المرأة القيادي والمستقل. والثاني هو توافر بيئة داعمة من خلال التدريبات والتسهيلات الإدارية والدعم المحلي، ما أسهم في بناء حاضنة للمشاريع الناشئة.
رسالة إلى ..
وتختم منزلجي حديثها بالقول إن هذه المرحلة التاريخية مهمة للنساء و هي فرصتهن الحقيقية وأضافت : لا تنتظرن الظروف المثالية بل اصنعنها بأنفسكن ، بالتعلم والعمل والاجتهاد يمكنكن أن تكونن حجر الأساس في مجتمع جديد يُبنى على شراكة حقيقية واحترام متبادل، قوتنا اليوم ليست وليدة الظروف فقط، بل هي نتاج إرادة صلبة وتغير إيجابي في أعماقكن أولاً.