من ميرا إلى العالم.. رحلة بابا نويل من القداسة إلى الثقافة الشعبية

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – بشرى سمير:

مع اقتراب شهر كانون الثاني من كل عام، تبدأ شخصية مميزة بالظهور على واجهات المحلات وشرفات المنازل ووسائل الإعلام: «رجل عجوز مبتسم، بلحية بيضاء كالثلج، يرتدي بذلة حمراء، ويقود عربته التي تجرها الأيائل نحو مداخن البيوت»، إنه بابا نويل، أو سانتا كلوز، الذي انتقل من أسطورة قديمة إلى أيقونة عالمية تمثل روح عيد الميلاد، غير أن وراء هذه الصورة التجارية رمزية عميقة تتجاوز مجرد شخصية مرحة، لترتبط بقيم العطاء والتجديد والبراءة.

الأصول التاريخية والأسطورية

يوضح الدكتور خالد شناعة، أستاذ التاريخ المتقاعد في جامعة دمشق، أن جذور شخصية بابا نويل تعود إلى القديس نيقولاوس، أسقف مدينة ميرا في القرن الرابع الميلادي (في تركيا الحالية)، المشهور بكرمه وسرية عطائه، وخاصة للأطفال والفقراء، ومن أبرز القصص عنه أنه أنقذ ثلاث فتيات من العبودية عبر إلقاء أكياس من الذهب من نافذة منزلهن ليلاً لتأمين مهورهن، ومع مرور القرون، امتزجت هذه الشخصية التاريخية بتقاليد أوروبية، خاصة في هولندا حيث عُرف باسم «سينتر كلاس»، قبل أن تنتقل إلى أمريكا مع المستوطنين الهولنديين وتتحول إلى «سانتا كلوز».

بابا نويل كرمز ثقافي

يشير شناعة إلى أن شخصية بابا نويل في العصر الحديث تجاوزت حدودها الدينية لتصبح ظاهرة ثقافية عالمية، تمثل:
•روح العطاء غير المشروط: فهو لا يميز بين غني وفقير، ولا ينتظر مقابلاً لعطائه.
•قوة الخيال والبراءة: ارتباطه الوثيق بعالم الأطفال يجسد قيم البراءة والأمل.
•الفرح والمشاركة الاجتماعية: ظهوره يرتبط بموسم الاحتفالات والعطلات الأسرية.
•الخلاص من اليأس والألم: في العديد من الثقافات يمثل قدومه انتصاراً للخير والتفاؤل في أحلك أوقات السنة.

رمزية تبادل الهدايا

ويضيف شناعة أن شخصية بابا نويل لا يمكن فصلها عن تقليد تبادل الهدايا الذي أصبح السمة الأبرز لعيد الميلاد، حيث تحمل هذه الممارسة دلالات متعددة:
– تجسيد المحبة والتضحية: فالهدية المختارة بعناية تعبر عن الاهتمام بالآخرين وتذكّر بقيمة العطاء دون انتظار مقابل.
– تجديد العلاقات الإنسانية: في زحمة الحياة المعاصرة، تمنح الهدية فرصة لترميم الروابط وتجاوز الانشغال.
كما ترمز هدايا الميلاد إلى «الهدية الكبرى» المتمثلة ببداية جديدة، تذكيراً بولادة المسيح حسب المعتقد المسيحي. ورغم تحول موسم الهدايا إلى ظاهرة تجارية ضخمة، يبقى جوهرها الحقيقي في القيمة المعنوية لا المادية.

الجدل والانتقادات

ولفت شناعة إلى أن شخصية بابا نويل واجهت انتقادات متنوعة، بدءاً من اتهامها بتجارية العيد وإخفاء معناه الديني، وصولاً إلى القول إنها تشجع على الاستهلاك المفرط وتغرس سلوكاً مادياً لدى الأطفال. ومع ذلك، تبقى القيم التي تمثلها هذه الشخصية قادرة على تجاوز تلك الانتقادات إذا ما تم التركيز على جوانبها الإيجابية.
ويبقى بابا نويل شخصية محبوبة وتجسيداً حياً لفكرة أن العطاء يمكن أن يكون سرياً وغير مشروط، وأن الفرح الحقيقي يكمن في إسعاد الآخرين. في عالم يزداد تعقيداً وانشغالاً، تذكرنا هذه الشخصية الأسطورية بأن بعضاً من السحر والغموض والخير لا يزال ممكناً. وربما تكون الهدية الأكبر التي يقدمها بابا نويل للبشرية هي هذا الإيمان بأن الخير موجود، وأن كل نهاية عام تحمل معها بداية جديدة وفرصة للتغيير والمغفرة والتجدد.
وختم شناعة بالقول: في النهاية، سواء كان بابا نويل حقيقة تاريخية أو أسطورة خيالية، فإن قيم العطاء والأمل والفرح التي يمثلها تبقى حقيقية وملموسة في كل هدية نقدمها بصدق، وكل ابتسامة نزرعها في قلوب الآخرين.

Leave a Comment
آخر الأخبار